"سر العلبة الذهبية" بين التشويق والفكرة

أحمد نجيب أغنى المكتبة العربية بمئات المصنفات في مجالات ثقافة الطفل كافة، سواء من ناحية الإبداع أو من ناحية التنظير والدرس الأدبي الجاد.
الفكرة التي ذكرها القاص تعتمد على الحبكة البسيطة المتدرجة، والتي تناسب المرحلة العمرية المتوسطة في الطفولة، حتى سن التاسعة 
إذا كان لأدب الأطفال دولة فإن القصة تكون عاصمة هذه الدولة وقلبها النابض

الرائد الكبير لأدب الأطفال أحمد محمود نجيب، أغنى المكتبة العربية بمئات المصنفات في مجالات ثقافة الطفل كافة، سواء من ناحية الإبداع أو من ناحية التنظير والدرس الأدبي الجاد، بل ساهم أيضًا من الناحية العملية بالتدريس والتدريب ووضع الخطط والإدارة لقطاعات متعددة في ثقافة الطفولة. 
فالرائد الكريم من الذين أخلصوا لقضية ثقافة الطفل وأوقف عليها نشاطاته وبذله المعرفي والإبداعي بعامة، طوال عقود طويلة من السنوات، وتخصص فيها، وصفه باحث: "الكاتب لم يترك موضوعًا من الموضوعات الصالحة لأن يكتب فيها للأطفال إلا وعالجها"، ومن هذه المجالات المهمة مجال إبداع القصة للطفل، بل له مقولة مهمة حول تأثير قصة الطفل، فهو رغم تأكيده أن القصة لون من ألوان الكتابة للطفل، لكنه يرى أهميتها ومكانتها المتقدمة بين هذه الأنواع، وله في ذلك التعبير الطريف: "إذا كان لأدب الأطفال دولة فإن القصة تكون عاصمة هذه الدولة وقلبها النابض"، وننتقى قصة "سر العلبة الذهبية" نموذجًا لقصص "حمد نجيب من مئات القصص التي كتبها للأطفال.
القصة مكونة من 43 صفحة، وصدرت في مطبوعات المكتبة الخضراء الشهيرة للأطفال والتي نشرت قصص الطفل طوال سنوات، وتدور أحداث قصة "العلبة الذهبية" في بلاد الصين، حول أربعة من الأصدقاء هم: سنج وبنج وكاو وماو الأبيض، جمع بينهم أنهم ليس لهم أهل أو أقارب، وكل واحد منهم يعيش في الدنيا وحده، فاتفقوا علي العيش معًا، وأن يكونوا لبعضهم أصدقاء أوفياء. ثم يبدأ القاص في سرد الخصائص النفسية للشخصيات الأربعة، فماو الأبيض شابًا طيبًا شجاعًا، يحب الخير للناس، أما سنج وبنج فكان يغلب عليهما فعل الشر، أما كاو فكان وسطًا بين الخير والشر. وهنا تنتهي المقدمة وتبدأ تصرفات الشخصيات التي تمليها خصالهم النفسية لتحقيق التصعيد في القصة، فسنج وبنج أرادا تكوين عصابة للسرقة لأنها أسرع طريقة للحصول علي الأموال والوصول للغنى والثروة، فرفض ماو بشدة أما كاوا فكان مترددًا لا يدري ماذا يفعل، لكنه تأثر أخيرا بسنج وبنج ووافق معهما على تكوين العصابة. 

القصة من نوع قصة القوس أو نصف الدائرة القائمة علي موقف أو مقدمة ثم يتم التصعيد منها حتى نصل للأزمة ثم الحل أو لحظة التنوير التي تحتوى العظة أو الخلاصة أو مغزى القصة

وحاول ماو صرف أصدقائه عن هذه الفكرة الشريرة، فقال لهم هل تحبون أن يسرقنا أحد؟ فردوا بالرفض، فقال لهم: فلم تسرقون الناس، فسكتوا. ثم انصرفوا عنه واتفقوا على التآمر عليه حتي لا يكشف أمرهم عن طريق إعداد خطة محكمة للتخلص منه، بدأت بخداعه بأنهم اقتنعوا بكلامه حول أن السرقة حرام، فسعد ماو برجوعهم عن فكرتهم الشريرة وأنهم سيبحثون عن عمل آخر. بينما هم اتفقوا مع شخص يسمي "سونار" أن يحضر لهم في الصباح، وهم يدعوا أنهم لا يعرفونه، ويخبرهم سونار أنه يعلم الأسرار والأخبار، وأنه ظل سنة كاملة عبر البلاد والبحار ليبحث عن شخص طيب من الأخيار، ثم ذكر صفات "ماو" وأن اسمه مكون من ثلاثة حروف أولها ميم، فيقولوا هذا هو ماو، فيقول له سونار إنه صاحب الكلمة السحرية التي تفتح المغارة الذهبية في بلاد الكهرمان والتي لا تفتح إلا بكلمة من فمه هو دون غيره. وأن طريق بلاد الكهرمان طويل طويل فيه عقبات وأهوال كثيرة ويعطيه ما يقول عنها أنها العلبة السحرية التي تحتوى مائة حبة سحرية، وأنه كلما قابلته مشكلة أو عائق تناول منها حبة فتحل المشكلة في الحال. لكن هذه الحبوب لم تكن سحرية بل حبوب سامة تقتل من يتناولها. 
ثم تمضي القصة في مسارها المرسوم حيث ينجو "ماو" في طريقه من عصابة المائة التي تتناول الحبوب السامة بدلا منه، ثم يذهب لملك بيسان الذى يثق فيه ويعينه وزيرًا لبلاده فيسير في الناس بسيرة العدل وإنصاف المظلوم، فيعم الخير ويحبه أهل المملكة، ثم يواجه تآمر آخر ممن يكرهون مكانته ويحسدونه لقربه وثقة الملك فيه، لكنه ينجو مرة أخرى بفضل أخلاقه الطيبة ورعاية الله تعالى له، ثم يصبح ملكًا للبلاد. ويحب ان يعرف مصير أصدقائه وبعد مسيرته في مغامرة متنكرًا ليعرف عنهم أخبارهم، يسأل دار العدالة فيعرف أن اثنين قتلا في معركة، وأن الثالث مات في السجن. لأن الطريق الذي اختاروه لأنفسهم لا يؤدي إلا إلى الشقاء والتعاسة.
وتعتمد قصة "سر العلبة الذهبية" الفكرة التي ذكرها القاص على الحبكة البسيطة المتدرجة، والتي تناسب المرحلة العمرية المتوسطة في الطفولة، حتى سن التاسعة او الثامنة، حيث زادت قدرات الطفل علي تفسير العلاقات وإدراك الارتباطات، ولهذا أثره البالغ الذي نرصد من باقي فقرات التحليل. 
والقصة من نوع قصة القوس أو نصف الدائرة القائمة علي موقف أو مقدمة ثم يتم التصعيد منها حتى نصل للأزمة ثم الحل أو لحظة التنوير التي تحتوى العظة أو الخلاصة أو مغزى القصة، وفي القصة نجد ثلاث ذروات أو ثلاث أزمات تحل تباعًا في مسار من التشويق، يعتمد الأسماء المشوقة المسجوعة "بلاد الكهرمان / مملكة بيسان / سنج وبنج / كاو وماو"، والحدث الغرائبي "الصندوق الذهبي المسحور / الحبوب المسحورة التي تحل المشكلات"، والتشويق أيضًا من فعل المغامرة لبطل الحدث الرئيس "ماو الأبيض". 
أما الأزمات الثلاثة فهي الصراع أو صدام الإرادة بين الخير ممثلًا في "ماو" والشر ممثلا في أصدقائه الثلاثة، ثم أزمة المكر بماو من حساده بمملكة بيسان والتحريض بأن يصارع الأسد الذى يهدد المملكة بعصا صغيرة مدببة من الطرفين، أما الأزمة الثالثة فكانت أزمة الفقر في بيسان: "نريد يا ماو ألا يكون في بلادنا فقير ولا محتاج .. ليعيش الناس في سعادة وأمان"، وكيف حلها الملك "ماو" أولًا باختيار الناس مجلس الحكماء المشكل من خمسين شخصًا من العلماء والخبراء والمفكرين، ثم فكر المجلس وأسس الصناعات الخشبية وصناعة الأثاث القائمة علي غابة بيسان، ثم الزراعة والصناعات اليدوية في بيوت المملكة .. وهكذا حتى أصبحت بيسان من أغني دول العالم. وهنا نجد بث فكرة الإصلاح السياسي مهاد الإصلاح الإقتصادي بصورة قريبة من ذهنية الطفل. 

children's literature
السماء في القصة تحمي الطيبين

كما حقق الكاتب وضوح الفكرة وإنارة أكثر من هدف للقصة، منها: "وما يحيق المكر السيء إلا بأهله"، وفكرة التوكل على الله وإعمال العقل، ومنها الجدية في الإصلاح والعمل، ومنها فكرة أن اختيار الإنسان يصنع مصيره الأخير، ومنها فكرة أن أداة صغيرة أو شخصية بسيطة يمكن أن تفعل وتصنع عملًا عظيمًا، وغير هذا من القيم الإيجابية البانية لشخصية الطفل في القصة.
كما أن رعاية طبيعة الطفل ومدركاته أدت إلى أن تكون القصة خطية الزمن، بمعني أن الأحداث مرتبه طبقًا لزمن الحكاية ولم يحدث أي تقديم لحدث لاحق فيما يسمي انزياح الخط الزمني، وأن الأزمات أو الذروات تتم تباعًا في القصة، بحيث تنتهى أزمة أولى لتبدأ ثانية وهكذا. فليس هناك من تعقيد في خيوط الحكي أو تشبيكها بدرجة معجزة للطفل.
كما تم استعمال الشخصية الثابتة المكتملة والواضحة في بناء الشخصيات في القصة، وابتكرت موهبة الكاتب أن تمثل الشخصيات الجوانب الخلقية المنوعة، فسنج وبنج مثلا الشر، وماو مثل الخير، فهي بذلك شخصيات تسمي "حدية" ناصعة اللون تقع في ثنائية الأبيض والأسود، واستعمل فقط الشخصية النامية لكن على نطاق بسيط يناسب مدركات الطفل، وهي شخصية كاو، وهي الشخصية الرمادية التي تحتوي الخير والشر معًا، لكن الشخصية تطورت ونمت لتميل ناحية الشر، فلاقت ذات جزاء سنج وبنج، وهذا من وضوح الغاية الأخلاقية وغرسها في ذهنية وضمير الطفل.
كما راعت القصة التميز في الشخصية فلم تخلط بين صفاتها والأسماء لها، فالجناس الناقص يصنفها في نطاق واحد "سنج وبنج"، و "ماو وكاو" قبل أن يميل كاو لسنج وبنج ويختار طريق الشر، بل يتميز ماو باللون الدال، فهو ماو الأبيض، إضافة لما يحققه هذا الجناس من المرح الضرورى فى قصة الطفل.
أما الحبكة فمحكمة تعتمد "فعل المغامرة" في أزمتين، وتعتد "الفكرة" في علاج أزمة الفقر بمملكة بيسان، وكان القاص من الذكاء بحيث قدم المغامرة عن الفكرة. كما خلطت بين حبكة الصورة العضوية في الأزمتين الأولي والثانية، والعلبة الذهبية التي تحتوي الحبات المسحورة المكذوبة، فكأنها قصة محكمة تنتهي عندما تخلص من عصابة المائة، هنا القاص يعرف قبل شروعه في الكتابة مسار القصة ودقائقها. 
ثم تبدأ قصة جديدة عندما يجد ماو أموال ملك بيسان المسروقة فيعيدها إليه، ثم حسد البعض لماو لمكانته من الملك فيمكرون به، ويقتل "ماو" الأسد بسقوط عصاته الصغيرة المدببة في فم الأسد، كما توجد ظل من حبكة صورة البناء حيث الشخصية لها دور البطولة المطلق هنا، وإن كنت أرى أن مشهد موت الأسد كان فيه شيء من العنف غير المحبب للطفل. 
كما نجد المزج بين الحلول القدرية بتدخل السماء، وبين الفعل من بطل القصة الموفق، ولكن القاص قام بسرد الحل القدري بذكاء أيضًا – وهي حقيقة - أن تدخل القدر جاء بمثابة جائزة للإنسان ذي النزعة الخيرة، فالسماء في القصة تحمي الطيبين. أما الفعل فجاء في قسم القصة الثالث وفي ملمح سياسي رفيع الطراز حول أن درب أى إصلاح أو تنمية لا يمكن أن يبدأ بعيدًا عن المهاد السياسي وحاضنة صحية باختيار الناس لحكمائهم من المتخصصين في الإدارة.
كما نجد في القصة المزج بين قصة الشخصية حيث إن عمودا فقريا حاكما للذروات الثلاث تمثلت في شخصية "ماو"، وقصة الحركة أو القصة السردية، بفعل المغامرة سر التشويق في القصة، وملحها الذي سبب مذاقها الشهي للطفل، وأيضًا قصة الفكرة عبر القسم الثالث وإصلاح مملكة بيسان، والتي جاءت في الخاتمة، وبعد إشباع الطفل من وجبتة المفضلة في التشويق والحركة والمغامرة.