سعادة زائفة للإسلام السياسي بالرئيس الكاثوليكي


تقدير القره داغي للبعد الديني في شخصية الرئيس بايدن، لا أهمية سياسية له إلا وفق فكرة رافعي شعار "الإسلام هو الحل" في محاولة للإيحاء بأن المسيحية يمكن أن تكون حلا أيضا في النظم الديمقراطية فلماذا لا يكون الإسلام كذلك.
ما لا يريد فهمه القره داغي مثله مثل المرشد الإيراني علي خامنئي، أن بايدن لا يمكن أن يكون رئيسا بمواصفات رجل دين

يتلهف الإسلام السياسي على التقاط أي معادل له من الأديان الأخرى لإحياء فكرة فاشلة تجعل من الدين حلا سياسيا، وبغض النظر عن أهمية المعادل الموضوعي، إن وجد أصلا، فإن الترحيب به يتحوّل إلى صخب من أجل تفعيل اللاواقعية السياسية.

شعرنا بذلك مع الترحيب الذي أبدته قيادات الإسلام السياسي في العالم العربي بالرئيس الأميركي جو بايدن، ليس بوصفه سياسيا بقدر كونه رئيسا كاثوليكيا أدّى القسم الرئاسي على نسخة تاريخية من الكتاب المقدس.

كان القسم أشبه بحكاية فلكلورية أراد الإسلام السياسي أن يجعلها تاريخية ونادرة، على اعتبار أن التاريخ الديني مصدر لا يمكن للحكم السياسي إلا الاستناد عليه في العالم المعاصر، حتى وإن كان محملا بالخرافة والدماء والشقاق.

تأسيسا على ذلك، يمكن أن نفهم تصريح أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، علي القره داغي، وهو يضفي بعدا دينيا غير موجود أصلا في نصوص الدستور الأميركي بشأن اختيار الرئيس وأداء قسم اليمين.

فلا ينص دستور الولايات المتحدة على أداء الرؤساء اليمين على كتاب ديني، لكنّ التقاليد التاريخية حوّلت الكتاب المقدس واختيار نسخة نادرة منه، إلى جزء من احتفالات التنصيب منذ انتخاب جورج واشنطن عام 1789.

تقدير القره داغي للبعد الديني في شخصية الرئيس بايدن، لا أهمية سياسية له إلا وفق فكرة رافعي شعار “الإسلام هو الحل” في محاولة للإيحاء بأن المسيحية يمكن أن تكون حلا أيضا في النظم الديمقراطية فلماذا لا يكون الإسلام كذلك. بينما العلوم السياسية لم تعد تولي أهمية لمثل هذه الفكرة في أكثر الدول مسيحية في الغرب، إلّا بقدر وجود الدين كحاجة إنسانية في المجتمع.

قبل أيام قال الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لمجلة “ذا أتلانتيك” إن بلاده “تدخل في أزمة معرفية”، محذرا من أنه “إذا لم تكن لدينا القدرة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ فعندئذ، حسب التعريف، سوق الأفكار لا تعمل. بالتالي ديمقراطيتنا لا تعمل”. المثير للتهكم أن الأزمة المعرفية الأميركية التي اعترف بها أوباما تحولت عند القره داغي إلى فتح سياسي قاده بايدن بوصفه رجل دين!

بريطانيا دولة مسيحية، لكن رأي الكنيسة السياسي لا يحظى بأكثر من الاحترام في الاستماع إليه في مراكز صنع القرار، ويسمح له بالمرور كتعبير عن الرأي في دولة ديمقراطية. والاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، مثلا، قوة سياسية أكثر من كونها دينية كما يوحي اسمها. وكذلك الحال مع بقية الأحزاب المسيحية الأوروبية.

الديمقراطية الغربية تعلمت الدرس الديني ولم تعد ترى في الكنيسة مصدرا للحل السياسي وهي مرحلة تم تجاوزها سياسيا منذ عقود، وليس كما يريد الإسلام السياسي أن يجعل من المسجد والمرجع والحوزة مصدرا لبناء الدولة. ذلك ما يجعل سعادة القره داغي بكاثوليكية بايدن مجرد تشبث بفكرة زائفة في علوم السياسة إلا عند أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية منها على حد سواء.

ما لا يريد فهمه القره داغي مثله مثل المرشد الإيراني علي خامنئي، أن بايدن لا يمكن أن يكون رئيسا بمواصفات رجل دين، وان أنجيلا ميركل وإن شكل حزبها ائتلافا مع أحزاب مسيحية أخرى لا يمكن أن تكون ممثلة لأفكار الكنيسة في إدارة الدولة. وإن تحذير إيمانويل ماكرون من الفاشية الإسلامية في فرنسا ليس دفاعا عن المسيحية. لذلك عدّ الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب معادلا سياسيا للإسلام السياسي، يهدف إلى الإيحاء بشكل مغلوط بأن الفشل التاريخي للدين في بناء الدول كان منجزا.

صحيح توجد قوى ناشئة في الولايات المتحدة تريد تغيير علاقة الليبرالية السياسية بالدين، لكن لا بايدن ولا أيّا من الرؤساء الأميركيين السابقين باختلاف درجة تدينهم، يمكن أن يمثل هذا التوجه الذي أراده القره داغي ويعمل عليه خامنئي كحلم سياسي باهظ الثمن، وفشل فيه من قبل حسن البنا ومحمد باقر الصدر والخميني وحسن الترابي وبن باز والقرضاوي وأسامة بن لادن.

من الطبيعي أن يقترب الرؤساء الأميركيون من المركز الديني في البلاد. لكنهم وفق كل الأحوال لا يعدّون رجال هذا المركز مصدرا استشاريا لبناء الدولة، وأن أبرز الديمقراطيين الكاثوليك هم ليبراليون في اللاهوت والسياسة على حدّ سواء. ومثل هذا الأمر موجود أيضا في أشد الأنظمة الدكتاتورية العربية التي بقيت تحاربها الأحزاب السنية والشيعية من أجل الوصول إلى الحكم.

كذلك استمرت بطريقة أو بأخرى، الخدعة التي يروج لها الإخوان المسلمون والأحزاب الشيعية الطائفية، والتي تقوم على أساس إن “الإسلام الديمقراطي” يسوّق نفسه كمعادل للأحزاب الديمقراطية المسيحية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما يفسر لنا بوضوح السعادة الفارغة التي مثلها ترحيب القره داغي ببايدن. بينما التذرع بالديمقراطيين المسيحيين في أوروبا من أجل هدف سياسي أثبت أنه غير صالح للبلدان العربية، والفشل السياسي العراقي المصري اليمني التونسي الليبي بعد صعود الأحزاب الإسلامية للحكم، يقدم لنا مثالا لا لبس فيه.

فشل الإسلام السياسي في إدارة الدولة يسميه روبرت بوتنام أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد لعب على “رأس المال الاجتماعي الذي يربط الناس في شبكات” لجأت إليه الأحزاب الإسلامية والطائفية وجعلت من الدين والقبيلة والطائفة والمذهب، بديلا للوطنية.

هناك توجه غربي مستمر منذ عقود “لسوء حظ الشعوب العربية لا يريد الإسلام السياسي قبوله”، يتمثل باعتبار الدين كشكل من الليبرالية، من أجل تطور العقيدة للتكيف مع الاحتياجات الحديثة ودعم سياسات وأحزاب يسار الوسط “تأمل ماذا يقابله لدينا: التمسك بالسلف الصالح!”.

الكاثوليكية الليبرالية هي ثقافة يمكن التعرف عليها في مؤسساتها واستعاراتها وأيقوناتها وإشاراتها. يمكن عدّ الفاتيكان والبابا مثالا مفيدا في ذلك، لكن لا يمكن وفق أي حال من الأحوال السياسية اعتبار السيستاني وشيخ الأزهر وخامنئي وعبدالعزيز آل الشيخ وراشد الغنوشي وحسن نصرالله، معادلا للبابا. ذلك يحوّل الأمر إلى نكتة سياسية باردة ومثيرة للاستياء العام.

البابوية ببساطة لا تصدر قرارات سياسية كما فعل الخميني بالأمس ويفعل خامنئي اليوم، ويريد القره داغي ذلك مع أنه حلم يحوّل الدول إلى مستنقعات للتخلف تجعل الخرافة التاريخية مصدرا، وتنقل تقاليد المسجد إلى الدولة.