سقوط "حل الدولتين" في لبنان

يحدثونك عن سعيهم لإلغاء الطائفية، فيحققون باسم فكرة تقدمية مشروعا رجعيا.

حصلت أخيرا خمس ظواهر تهز الوجدان الوطني اللبناني: 1) إعلان السيد حسن نصرالله الانتساب والولاء المطلقين لإيران ومرشدها على حساب انتمائه اللبناني، كأنه يطلق الدولة الإسلامية في لبنان الواردة في وثيقة حزب الله التأسيسية. 2) تضامن المسلمين، على اختلاف مذاهبهم، مع اللاجئين الفلسطينيين في موضوع العمل ليتساووا باللبنانيين في الحقوق المدنية والاجتماعية، فيكتمل التوطين حتما. 3) الاختلاف على أساس طائفي حيال موضوع عودة النازحين السوريين سريعا إلى بلادهم. 4) الدفاع السني عن السلطنة العثمانية ضد تاريخ لبنان ونفي ظلمها. 5) سكوت الشرعية اللبنانية عن مختلف هذه الظواهر والتعاطي معها كأنها أحداث متفرقة، في حين أن كل ظاهرة منها كافية لفسخ عقد وطني.

إذا كان لا يجوز تضخيم الأمور، لا يجوز بالمقابل تسخيفها. من أجل تفادي المواجهة، اعتدنا في لبنان، دولة وشعبا، الاستخفاف بالأخطاء واختلاق الأسباب التخفيفية، فوقعنا في الأعظم. هل اتفق سنة 1920 على إحياء الكيان اللبناني في دولة لبنانية واحدة أم في مجموعة دول وهويات؟ هل جرى في "وثيقة الطائف" سنة 1989 الاعتراف بـ"لبنان وطنا نهائيا" أم بنهاية لبنان؟ وهل رفع سنة 2005 شعار "لبنان أولا" أم شعار "لبنان أخيرا"؟ هل تم التسامح مع سلاح حزب الله من أجل تحرير الجنوب أم من أجل إعادة الاحتلال والحروب إلى لبنان؟

لم نعد نعيش في ظل تعددية الطوائف الصابرة على بعضها البعض، إنما في ظل تعددية المشاريع الطائفية المتصارعة في ما بينها من جهة، ومع الكيان اللبناني من جهة أخرى. لم نعد نعيش في ظل سلاح غير شرعي يجب استيعابه في الدولة، إنما في ظل مشروع عسكري/عقائدي هو الذي استوعب الدولة. لم نعد نعيش في ظل تيارات أصولية وتكفيرية عابرة، إنما في ظل جماعات تحمل مفهوم حكم ينقض قوانين الدولة المدنية وتقاليدها الإسلامية والمسيحية. لم نعد نعيش في ظل انقسام مسيحي/إسلامي، ولا حتى في ظل انقسام سني/شيعي، إنما في ظل انقسام وطني وحضاري حاد جعل مجمل فكرة لبنان باطلة وملغاة.

لو أتت هذه الظواهر السلوكية قبل اتفاق الطائف لوضعناها في خانة المطالبة بتعديل الدستور والإطاحة بهويته اللبنانية وبالمارونية السياسية. أما وأن الدستور تعدل وتنازل المسيحيون، والموارنة تحديدا، في الطائف، فلا يسعنا إلا أن نضع هذه السلوكيات في إطار القضاء على ما بقي من ذلك الـ"لبنان" الحضاري. ولو أتت هذه الظواهر السلوكية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي لوضعناها في حساب التدرج على الوطنية اللبنانية. أما أن يبقى الولاء الوطني منقوصا، بل مفقودا، بعد مئة سنة على نشوء هذه الدولة، فالمسألة تخطت التدرج إلى عدم إيمان جماعات متعددة الطوائف بهذه الدولة اللبنانية تحديدا؛ وتخطت كذلك إشكالية الولاء للبنان إلى حالة الانفصال عن باقي المجتمع اللبناني المكون، هو أيضا، من مواطنين مسلمين ومسيحيين يؤمنون بلبنان ويريدون الحياة معا. وهذه هي بيئتي.

صار واضحا أن بعضهم يرفض الدولة القائمة، ويعمل على تأسيس دولة تشطب من صكها التأسيسي عبارة "لبنان البطريرك الحويك"، ومن وثيقة استقلالها بشارة الخوري ورياض الصلح، ومن تاريخها النضالي بشير الجميل، ومن نهضة عمرانها رفيق الحريري، ومن انتفاضتها الاجتماعية الإمام موسى الصدر. ورغم ذلك، يأتونك، بوقاحة ما بعدها وقاحة، يحدثونك عن سعيهم لإلغاء الطائفية، فيحققون باسم فكرة تقدمية مشروعا رجعيا.

نشهد اليوم انقلابا بغطاء شرعي على الدولة، فتم تجويف مؤسساتها والتحكم بقادتها والسيطرة على قراراتها ومصادرة ثرواتها، تارة باسم "التسوية" وطورا باسم السلاح. وبالمناسبة، ما نسميه هدرا وفسادا هو عمليا مصادرة ثروات الدولة المركزية ونقلها إلى دولة قيد التأسيس. وبانتظار انتهاء تحضيرات التسلم والتسليم، تركوا للمسؤولين الشرعيين الإقامة الاختيارية وأبهة البرتوكول قبل الإطباق الكامل على البلد. وتركوا للناس الترف والبذخ والسهر والخمرة والحياة الاجتماعية الزائفة والآنية.

قالوا لهم: غنوا ونحن نغتني، ارقصوا ونحن نحكم، اصرفوا ونحن نجبي، استسلموا ونحن نستلم، تخاصموا ونحن نلملمكم. هكذا كانت حال بيئة الملكية الفرنسية عشية سقوطها أمام الثورة، وهكذا كانت حال بيئة قياصرة روسيا عشية انهيارها أمام الثورة البولشيﭭية. حين يسقط المجتمع تسقط الدولة. مجتمعنا الصيغوي، وهو الأكثرية المتخاذلة، مبهور بقشور الحياة، والآخرون يسيرون بخطى ثابتة نحو إنشاء لبنان خاص بهم وبعقيدتهم وبديمغرافيتهم وبنمط حياتهم.

نشهد اليوم في لبنان تحولا من مرحلة التعايش مع النظام اللبناني إلى مرحلة إلغاء هذا النظام. ويترافق هذا التحول الداخلي مع تحولات إقليمية إذ تمكنت إيران من مد نفوذها في بلاد المشرق واليمن وهو إنجاز لم يسبقها إليه أحد، ونجحت إسرائيل، بدعم أميركي، في وقف مسار إنشاء دولة فلسطينية. لكن المؤسف أن إلغاء "حل الدولتين" يطبق في لبنان أيضا، حيث تبدو دولة لبنان الشرعية كأنها "إدارة محلية" في دولة أخرى.

لا تزول الأوطان من الجغرافية، ولو تعدلت مساحتها، بل من التاريخ. وتزول من التاريخ حين يزول دورها. ويزول دورها حين تحيد عن ثوابتها ورسالتها وتضعف سلطتها. وهذه حالنا في لبنان، بالإذن من شعار الـ10452 كلم². فقدنا نقطة الارتكاز التي كان اسمها الشراكة الوطنية في دولة ديمقراطية، ميثاقية، مدنية وعصرية. فالتعايش لا ينجح في المكان إذا لم تسعفه وحدة الزمان. التطور جمع الجغرافيا لكنه لم يجمع الزمان ولو قصر المسافة.

لا يكفي التفرج على هذا التحول الخطير من الشرفات. لا يكفي نقل مسؤولية المعارضة من طرف إلى طرف آخر، ومن مرجعية دستورية إلى مرجعية دستورية أخرى. يفترض باللبنانيين المؤمنين بلبنان 1920 و1943 أن يتداعوا إلى تظاهرة مليونية، فينزل أهالي القرى إلى ساحاتهم وأهالي المدن إلى شوارعهم لتجديد إعلان الإيمان بلبنان.