سنة أولى فراغ

ثمة مراكمة من الويلات التي لم يعرفها المجتمع اللبناني في تاريخه المعاصر حتى في عز ازماته الداخلية.

عدة أيام ويتمم لبنان سنة من فراغ رئاسي غير مسبوق بنتائجه وتداعياته، كما حجم الضغوط التي تمارس فيه وعليه للخروج من ازماته المتلاحقة. انهى الرئيس اميل لحود ولايته بفراغ ما لبث ان ملأه الرئيس ميشال سليمان، لكنه انهى ولايته بفراغ أوصل الرئيس ميشال عون. ومنذ ذلك الوقت لا زال الفراغ القاتل. لكنه هذه المرة يشكل تحديا من نوع آخر يلامس أسس الكيان. واذا كانت الفراغات السابقة قد مرت بأزمات من أنواع الحكم او المشاركة او غيرها، فان الفراغ الحالي لم يعد من النوع الذي بات مألوفا في الحياة السياسية اللبنانية، وانما اختلط وامتزج هذه المرة بمعطيات ووقائع لا طاقة للبنانيين على تحملها او القدرة على التغيير فيها ولو جزئيا.

معظم المراكز الحساسة في مؤسسات الدولة المالية والأمنية والقضائية تُدار اليوم بالإنابة، وقريبا ستمتد الفراغات الى مواقع لا تُحتمل، وسط شلل تام في الحراك الداخلي والدولي المتصل بانتخابات الرئاسة. فبعض الوساطات ومنها الفرنسية وضعت جانبا في وقت تشكل اللجنة الخماسية نوعا من تقطيع الوقت المميت في ظل غياب مبادرات قابلة للحياة او اقله البناء عليها، ذلك في ظل تداخل أزمات مستجدة او احياء البعض منها وربطها بشكل او بآخر بالمعطيات الرئاسية القائمة.

ثمة حراك قطري برضا أميركي واستبعاد فرنسي غير معلن، ونظر من بعيد دون ضجيج من اطراف أخرى، وسط واقع حذر لا يجرؤ أحد على القيام ولو بخطوات محدودة، بانتظار تحريك ملفات اكثر شمولا وأكثرها فعالية للاستثمار في الواقع اللبناني والإقليمي. ومن ابرز الملفات الخطرة والمثارة حاليا، ملف النازحين السوريين في لبنان وبخاصة الاحجام والاعداد المتداولة حاليا، علاوة على نوعية المواقف والتصريحات التي يدلى بها، ومن بينها الإعلان صراحة من الهيئات الدولية والأوروبية وغيرها عن عدم تأييدها لعودة النازحين الى سوريا والاشارة بإبقائهم في لبنان وتقديم المساعدات لهم بهدف ابقائهم وعدم التشجيع على عودتهم. وثمة من يشير بوضوح الى ان ما يجري هي عمليات توطين وبأطر غير شرعية تقوم بها منظمات دولية غير شرعية عبر وسائل وأساليب متعددة. والأخطر من ذلك الاعداد التي تستجلب للداخل اللبناني يوميا، علاوة على نوعيتها لجهة الهرم العمري وغالبيتهم من فئة الشباب المدربين عسكريا، إضافة الى عمليات مصادرة الأسلحة الثقيلة من مخيمات النازحين التي باتت ظاهرة يومية معتادة. وثمة من يشير في هذا السياق الى ربط عمليات ادخال النازحين الى لبنان بموضوع الوصول الى الرئاسة، وهذا ما يشار اليه بشكل علني وواضح، وفي أي حال من الأحوال يشكل هذا الملف المعقد بيئة قابلة للتفجير الأمني والعسكري في أي وقت ممكن.

لقد أدى استمرار الفراغ الرئاسي الى مجموعة من الازمات المتصلة، كالفراغات في المؤسسات التي بدأت تنهار وتتحلل وسط مخاطر وجودية، كالفقر والعوز وتفشي الجريمة المنظمة وشيوع مظاهر الاجرام غير المسبوق، وانتشار ثقافات وعادات غير معتادة في المجتمع اللبناني، كالقتل ذبحا والسلب وانتشار مظاهر الاغتصاب والشذوذ وغيرها من الآفات الاجتماعية التي باتت تهدد مجتمعات بأكملها. باختصار ثمة مراكمة من الويلات التي لم يعرفها المجتمع اللبناني في تاريخه المعاصر حتى في عز ازماته الداخلية.

بالمحصلة يكاد يتم لبنان سنته الأولى من فراغ اتى على معظم مظاهر مؤسسات الدولة الحيوية، وبات اليوم مكشوفا ومتروكا لقدره، مصحوبا بخلل ديموغرافي مدمر، فتعداد النازحين سيصبح قريبا موازيا لتعداد اللبنانيين، والفقر المدقع حصد معظم العائلات اللبنانية ومداخيلها المتواضعة، وسط منافسة شديدة وشرسة على اقل مقومات البقاء بين النازحين والمواطنين اللبنانيين. انه التأزم المتواصل الذي سينتج عنه قريبا، وهذه المرة ليس انفجارا معيشيا او ماليا اقتصاديا، انما انفجارا امنيا عسكريا سيأتي على اليابس واليابس بعدما ذهب الأخضر بعيدا منذ زمن، والباقي اعظم وسط سكوت دولي مطبق ومرعب، وبلا امل ان لا يتمدد الفراغ لسنوات اخرى.