سوتشكوف وكافكا ومؤتمر الرواية في لينينغراد

كتابات سوتشكوف لقيت ترحيبا لدى المسؤولين وسرعان ما برز بين أقرانه من النقّاد السوفيت.
سوتشكوف توفي عام 1974 بسكتة قلبية، وهو في أوج نشاطه الأدبي
كتاب كافكا أحدث الكتاب ضجة في الأوساط الثقافية وبين القرّاء الروس

كان بوريس سوتشكوف في الثالثة والعشرين من عمره في عام 1940، ويتقن ثلاث لغات عالمية (الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية)، ومن أكثر المثقفين الروس اطلاعا على الآداب الغربية، حين شرع بكتابة أولى مقالاته النقدية: "دراسة جديدة عن اونوريه دي بلزاك" و"الأدب الإنجليزي في مفترق الطرق" و"روايات عن الحرب العالمية الأولى" وهي مقالات أصيلة، تنم عن نظرة نقدية ثاقبة، ولكنه اختار طريقا خاطئا، وظل طوال حياته معذبا ونهباً، لمشاعر متناقضة، ففي الوقت الذي كان مسحوراً بأعمال كبار الكتّاب الغربيين، سخًّر كل قدراته الفكرية والتحليلية الرفيعة للدفاع عن الأدب الواقعي – حسب المفهوم السوفيتي الجامد  للواقعية - ونقد وتفنيد كل ما لا يتفق مع هذا المفهوم الأدبي من أعمال أدبية طليعية غربية.
كتابات سوتشكوف لقيت ترحيبا لدى المسؤولين وسرعان ما برز بين أقرانه من النقّاد السوفيت، بذكائه وقدرته التحليلية البارعة، وأصبح رئيسا لتحرير مجلة "الأدب العالمي"، وعمل في الوقت ذاته موظفا بارزاً بقسم الدعاية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومديرا لدار النشر باللغات الأجنبية.
 كان الخلاف حينذاك على أشده بين رئيس قسم الدعاية في اللجنة المركزية وبين وزير الأمن لافرينتي بيريا. طلب الأخير من سوتشكوف أن يكتب تقريراً يدين رئيسه في القسم ولكنه رفض ذلك، رغم الضغوط  النفسية التي تعرض لها. فتم تلفيق تهمة ضده، وهي التجسس لصالح الولايات المتحدة الأميركية، وحكم عليه عام 1947 بالسجن خمسة وعشرين عاما. وبعد ثمان سنوات من الاعتقال والأشغال الشاقة، شمله العفو العام عن سجناء الرأي الذي صدر عام 1955، فأطلق سراحه، وعاد إلى موسكو .
دخل سوتشكوف السجن شاباً شهماً أبيًّا، وخرج منه تابعاً مطيعاً للحزب. حيث تعلم الدرس جيدا: لا حياة لمن لا يخدم السلطة والحزب القائد بكل مواهبه وطاقاته. ولكنه مع ذلك ظل طوال حياته إنساناً حذراً وطيباً ولطيفاً بعيداً عن روح المشاكسة والتخوين والتسقيط التي كانت سائدة في الوسط الثقافي السوفيتي في العهد الستاليني .

Russian literature
بوريس سوتشكوف 

 وشهدت السنوات التالية صعوده المهني السريع وشغل وظائف مهمة (نائب رئيس تحرير مجلة "زناميا" الأدبية المرموقة، أستاذ جامعي، مدير معهد الأدب العالمي. وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب، وانتخب عضوا مراسلا في أكاديمية العلوم السوفيتية. وأصدر العديد من الكتب في نظرية الأدب، وعلم الجمال، لعل أهمها كتاب: "المصائر التاريخية للواقعية" (1967)، الذي ترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية، وصدرت ترجمته العربية عن دار "الحقيقة" اللبنانية عام 1974. وتناول سوتشكوف في هذا الكتاب تطور الواقعية في الأدب العالمي .
ومن كتبه الأخرى "وجوه العصر: مقالات عن الكتَّاب والعملية الإبداعية" وقد صدر في مجلدين عام (1969). وكتاب "فعالية الفن" الذي صدر عام 1978 بعد وفاته .
كما صدرت تحت إشرافه المؤلفات الكاملة - المترجمة إلى الروسية - لتوماس مان، وستيفان زفايج وكتاب غربيين آخرين. وقد كتب لكل منها مقدمة تحليلية مسهبة من منظور أيديولوجي ماركسي  .
توفي سوتشكوف عام 1974 بسكتة قلبية، وهو في أوج نشاطه الأدبي، وذروة نضجه الفكري والإبداعي، عندما كان في بودابست للاشتراك في مؤتمر أدبي. وفي العام التالي لوفاته قررت السلطة منحه جائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 1975 عن كتابه "المصائر التاريخية للواقعية".
كان سوتشكوف، هو المنظر والباحث المتعمق الأكثر اطلاعا على الآداب الغربية عموما، والمشرف الفعلي على نشر ما يترجم منها إلى الروسية في عموم الاتحاد السوفيتي، بما لا يتعارض مع نظرة الحزب الحاكم إلى الأدب والثقافة. وكانت كلمته مسموعة لدى المسؤولين في القسم الأيديولوجي في اللجنة المركزية للحزب  .
لم يكن سوتشكوف يفصح عن آرائه الحقيقية، حتى لأقرب المقربين إليه. فقد كان من المعجبين بأعمال فرانز كافكا، وجيمس جويس، وبروست، ولكنه كان في كتاباته المنشورة يحلل ويحاول التقليل من شأنهم وشأن كتاباتهم، وبأسلوب يبدو علمياً ومقنعاً، متهما إياهم بالسوداوية وزرع اليأس والقنوط في النفوس .
سوتشكوف ينصب فخاً 
في الفترة من الخامس إلى الثامن من أغسطس/آب عام 1963 عقدت جمعية الكتّاب الأوروبيين – التي كانت تضم كتّابا من معظم الدول الأوروبية، وبضمنها دول أوروبا الشرقية – مؤتمراً مهماً في لينينغراد (بطرسبورغ الآن)، عن مشاكل الرواية المعاصرة ومستقبلها تحت عنوان "مصير الرواية"، حضره عدد كبير من أكبر وألمع الروائيين في أوروبا، بينهم بعض الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب  (هنريش بول، غونتر غراس، هانز فيرتر ريختر، مارتن فالزر، البرتو مورافيا، ايتالو كالفينو، فاسكو براتوليني،  آلان روب غرييه، جان بول سارتر،  ونتالي ساروت - التي أدهشت الكتّاب الروس المشاركين في المؤتمر. بلغتها الروسية الطليقة، وتبين أنها روسية الأصل واسمها الحقيقي نتالي تشيرناك).
كان الوفد السوفيتي يتألف من 35 كاتبا وناقدا وباحثا بينهم ميخائيل شولوخوف، وايليا اهرنبورغ، والكاتب الروائي فاسيلي اكسيوف - الذي لمع اسمه في أوائل الستينيات كأحد الكتّاب الشباب الموهوبين - والكسي سوركوف القيادي في اتحاد الكتّاب السوفيت. وكان ثمة فريق حزبي يشرف على أعمال المؤتمر برئاسة عضو المكتب السياسي ليونيد فيودوروفيتش ايليتشوف .
كان سوتشكوف  - المنظر الأدبي، والباحث اللامع في علم الجمال الماركسي - أحد أعضاء الوفد السوفيتي، ويفهم  كل ما يدور في كواليس الحياة الثقافية في روسيا، وفي أروقة المؤتمر .
قبيل انعقاد المؤتمر اجتمع ليونيد ايليتشوف برئيس وأعضاء الوفد السوفيتي للاستماع إلى آرائهم بصدد المؤتمر. ويقول فاسيلي أكسيونوف، في محاضرة له ألقاها في جامعة جورج واشنطن عام 1982 :
" كان ايليتشوف جالسا على مفعد دوّار ويتحدث عن أشياء تافهة. وعلى حين غرة انبرى سوتشكوف  قائلاً: "ليونيد فيودوروفيتش: "نحن نلاقي صعوبة شديدة في مناهضة أعدائنا الأيديولوجيين الذين لديهم ثلاثة آلهة، ثلاثة حيتان (كافكا، وجويس، وبروست). جويس وبروست نعرفهما فليلا، فقد نشر بعض أعمالهما قبيل الحرب (يقصد الحرب الألمانية – السوفيتية (1941 – 1945) - أما كافكا فلا نعرفه على الإطلاق، وليس بوسعنا محاربته، ونحن نجهل عنه كل شيء".
فسأله ايليتشوف: "ماذا تريد أن تقول بهذا"؟ 
سوتشكوف: لدينا ترجمة جاهزة لرواية كافكا (المحكمة)، ويمكننا نشرها، وبذلك نلجم أفواه البرجوازيين، الذين يزعمون بأننا لا نسمح بنشر أعمال كافكاهذا أولا، وثانيا عندما نعرف كافكا من السهل علينا محاربته، وقد قيل - لكي تهزم عدوك، يجب أن تعرفه جيداً".

من الواضح أن سوتشكوف أقدم على مجازفة كبيرة، عندما أعدًّ فخا محكما لايليتشوف. تسمَّر الجميع في مقاعدهم، وحبسوا أنفاسهم في انتظار رد ايليتشوف، الذي دار على مقعده دورة أخرى وقال :
-    ماذا عن كاتبكم كرافكا؟ (تعمد ايليتشوف تحريف اسم كافكا) هل هو كاتب متشائم أم ماذا؟  وقال إلكسي سوركوف: أجل إنه كاتب متشائم.
ايليتشوف: حسناً. اطبعوا كمية محدودة من النسخ، حوالي ثلاثين ألفاً (وكانت هذه كمية متواضعة فعلاً، لأن أعمال الكتاب الكبار كانت تطبع بمائة ألف نسخة وأكثر) .

سوتشكوف باكياً
عشية إلقاء كلمته في المؤتمر، كان سوتشكوف وأكسيونوف مع عدد من ضيوف المؤتمر الغربيين يتسامرون في جو مفعم بالود والصراحة في غرفة واسعة مخصصة لكاتب أجنبي كبير بفندق "أوروبا" في لينينغراد، كان الجميع في مزاج رائق، وقد تآلفوا بسرعة، رغم اختلاف اللغات التي كانوا يتحدثون بها.
يقول اكسيونوف: "سألت سوتشكوف: عن ماذا ستتحدث غدا في كلمتك امام المؤتم؟ حدث ما لم يكن في الحسبان. التمعت عينا سوتشكوف وهو يحدق في وجهي، ثم أجهش بالبكاء، وتساقطت دمعات على وجهه. كان يبكي بكاءً حقيقيا وصادقا، ثم كفكف دموعه بيده. ربما كان للسكر دور في صراحته غير المعهودة، وفي البوح بمكنون صدره. قال بصوت مخنوق: "غدا سأهاجم من أحبه، وأشيد بمن أمقته  ".
في اليوم التالي وقف سوتشكوف على المنبر وحمَل على بروست وجويس وكافكا واثنى على شولوخوف.
حكاية الكتاب الأسود
في عام 1965 – وكنت حينها طالباً في موسكو – انتشرت شائعة بين المثقفين الروس عن صدور كتاب يضم مختارات من مؤلفات فرانز كافكا المحظورة في الإتحاد السوفيتي حتى ذلك الحين. وفي اليوم المحدد لعرض الكتاب للبيع في متاجر الكتب، اصطف منذ الصباح الباكر، طابور طويل أمام كل متجر، على أمل الحصول على نسخة من الكتاب، الذي طال انتظاره. وقفت في اليوم الموعود في طابور أمام أكبر وأشهر متجر للكتب في شارع غوركي، ولكن النسخ المحدودة، التي وزعت على كل متجر نفدت بسرعة، وانفض الطابور، ولم أحصل على نسختي من الكتاب بالسعر الرسمي وكان أقل من روبلين. ومن حسن الحظ، ولكثرة ترددي على المتجر، نشأ نوع من الصداقة الغريبة بيني وبين البائعة في قسم الكتب الأدبية، حيث كنت أحصل على كل ما هو صادر حديثا من الروايات والمجاميع القصصية ودواوين الشعر لأشهر الأدباء الروس والأجانب، ولكن بأسعار مضاعفة. وهكذا دفعت عشرين روبلا  لقاء كتاب "فرانز كافكا"، الذي اشتهر في الاتحاد السوفيتي باسم "الكتاب الأسود" لكون غلافه من الورق المقوى الأسود (هارد كوفر).
يحتوي "الكتاب الأسود" على رواية "المحكمة" و46 أقصوصة لكافكا، تسبقها مقدمة تحليلية ضافية بعنوان "عالم كافكا" بقلم سوتشكوف .
 أحدث الكتاب ضجة في الأوساط الثقافية وبين القرّاء الروس على حد سواء، فقد سمعوا كثيراً عن كافكا، ولكنهم لم يقرأوا له شيئاً، ولم يكن يعرفه إلا قلة من الكتّاب والنقّاد، عن طريق "سام ايزدات أو  النشر السري" أو الحصول على مؤلفاته بإحدى اللغات الأجنبية، عند السفر إلى خارج البلاد للمشاركة في بعض الفعاليات الثقافية. ولولا سوتشكوف لما ظهر "الكتاب الأسود" إلى حيز الوجود .