سوريا في مسائها الطويل

سوريا التي تجوع هي صناعة خارجية مئة بالمئة.
الأزمة الإنسانية تلتهم الأزمة السياسية في سوريا
خرجت سوريا عن السيناريو المعد سلفا. ضرب الخراب كل شيء فيها ولم يُستثن التاريخ
من شعب يزرع ويُطعم المنطقة إلى شعب يتلقى غذاءه المعلب في صناديق

المجتمع الدولي في حاجة إلى أن يلمع صورته الكئيبة في سوريا. بعد عشر سنوات من حرب عبثية وغبية في الوقت نفسه صار واضحا أن الفوضى المخطط لها سارت في طريق غير متوقعة.

الأزمة الإنسانية تلتهم الأزمة السياسية. ذلك يعني أن ما شهدته سوريا على مستوى بنيتها البشرية لم يقابله أي تحول سياسي يمكن اتخاذه حجة لذلك الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب قتلا واعتقالا وتشردا ونزوحا ولجوءا واذلالا وقهرا وحرمانا واستلابا وأخيرا أطل الجوع.

سوريا التي لا يمكن تخيل أنها يمكن أن تنزلق إلى الجوع بسبب غنى ثرواتها الزراعية والحيوانية هي اليوم بلد جائع ينافس في جوعه البلدان التي لم تحظ بشيء من الرخاء الطبيعي.

تم تحويل سوريا إلى دولة يقع الجزء الأكبر من سكانها تحت خط الفقر.

تلك نتيجة لا تسر أحدا. وأنا على يقين لو أن المعارضة السياسية السورية الأصيلة التي طالبت عام 2011 بإحداث تغيير في بنية النظام الحاكم عرفت أن حراكها سيقود إلى تلك النتيجة لكانت قد أجلت ذلك الحراك وبحثت عن وسائل لإقناع النظام بالقبول بتسوية سياسية تبعد عن سوريا الكارثة.

ولكن هل كان المجتمع الدولي من خلال الدول التي تدخلت في الشأن السوري على علم مسبق بهذه النتيجة؟

كانت هناك دول تعاطفت مع الشعب السوري في حراكه السلمي. ذلك مؤكد ولكن تلك الدول نأت بنفسها عن التدخل في ما يمكن اعتباره شأنا داخليا. وكانت هناك دول تآمرت على الشعب السوري ووجدت في ذلك الحراك مناسبة تعثر من خلالها على موطئ قدم لها في سوريا. وكانت هناك دول سعت بحكمة إلى رأب الصداع بين النظام السياسي والشعب الثائر حرصا منها على ابقاء أبواب الحوار مفتوحة غير أنها فشلت بسبب العنف الغبي الذي مارسه النظام والضغوط التي مارستها قوى كانت تسعى لإسقاط النظام.

في النهاية لم تبق في الواجهة سوى الدول التي أسعدها انهيار سوريا، تلك الدولة المغلقة في وجه المصالح الأجنبية والتي ظلت عصية على الديون الخارجية. اضافة إلى أنها كانت تتعامل مع المسألة الإسرائيلية بقدر هائل من الحذر والروية بالرغم من أن علات النظام السياسي الحاكم فيها كانت كثيرة ولم تكن حزبيته الشمولية إلا واحدة من تلك العلات.

بطريقة أو بأخرى فإن سوريا التحقت بدول الربيع العربي من غير أن تنتهي المسرحية بإسقاط رأس النظام اما بشكل مباشر كما حدث مع القذافي أو يشكل رمزي كما حدث مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح الذي جرت تصفيته بعد الاطاحة به وخلعه.

خرجت سوريا عن السيناريو المعد سلفا. ضرب الخراب كل شيء فيها من البشر إلى الحجر ولم يُستثن التاريخ غير أن النظام ورأسه بقيا سالمين وهما يقفان بتماسك ليمثلا الدولة السورية التي مهما جرى تجاوزها من قبل أعدائها المكشوفين وأصدقائها النفعيين تظل موجودة وحاضرة لأي نوع من المفاوضات، سواء من أجل انقاذ سوريا أو من أجل الحفاظ على حياة شعبها الذي صار اليوم مهددا بالجوع.

ترى ما الذي استفادته الدول التي أنفقت مليارات على الجماعات والتنظيمات الارهابية التي قاتلت عشر سنوات على الأراضي السورية؟ ها هي سوريا أمامهم اليوم. الأرض الخراب والحشود المليونية الجائعة. مشهد يكلله الخزي والعار لا يمكن أن يُعفى المجتمع الدولي من مسؤوليته عن صناعته. فسوريا التي تجوع هي صناعة خارجية مئة بالمئة.

لست هنا معنيا بالنقاش حول درجة مسؤولية النظام الذي لن اعتبره ضحية للمؤامرة التي سحقت الشعب السوري.

اليوم تواجه الدول التي أزاحت الشعب السوري بدلا من أن تنجح في تنفيذ مخططها لإزاحة النظام كارثة الوضع الإنساني في سوريا وهي إذ تسعى إلى التغطية على تلك الكارثة من خلال الحديث عن تسويات سياسية ممكنة مع النظام فإنها تسعى إلى إعفاء نفسها من المسؤولية التاريخية.

تتحدث تلك الدول عن الملايين الجائعة أو التي في طريقها إلى الجوع ولكن لا أحد يفكر بطريقة سليمة. ذلك لأن كل الطرق المطروحة مؤقتة. وهي طرق مهينة يتم من خلالها تحويل الشعب السوري من شعب يزرع ويُطعم المنطقة إلى شعب يتلقى غذاءه المعلب في صناديق.

هناك مَن يطلب من النظام السوري شهادة حسن سيرة وسلوك في مقابل اطعام الشعب السوري. تلك مناشدة ثقيلة على الضمير الإنساني. ولكن المجتمع الدولي الذي يتظاهر بأنه يسعى إلى انقاذ الشعب السوري من الجوع كان أسوأ بكثير من النظام.       

ظُلمت سوريا بنظامها ومعارضتها، بأعدائها وأصدقائها، بخدمها وسادتها ولكن الظلم الكبير أتاها من المجتمع الدولي الذي أزعجه أن لا يحتاج شعبها إلى مَن يطعمه.