"سيداتي سادتي.. هنا لبنان!"

تغير كل شيء في المنطقة إلا حالة الانقسام في لبنان.
اتفاق الطائف لم يفلح في انهاء حالة الانقسام ولعله أنهاها ظاهريا
لبنان سيبقى رهينة في الكواليس المظلمة ما لم يتجاوزها اللبنانيون
محنة لبنان بدأت منذ قرار نقل فصائل المقاومة الفلسطينية من الاردن الى لبنان في 1970

في خضم الحرب الاهلية اللبنانية، نهاية السبعينيات او مطلع الثمانينيات، نشرت احدى الدوريات العربية التي تصدر في باريس، رسما كاريكاتيريا معبرا يعكس واقع لبنان المنقسم وقتذاك. الرسم عبارة عن مجموعة من الآليات العسكرية تقف متقابلة، يجلس على كل واحدة منها احد رموز تلك المرحلة وامامه مكبرة صوت (ترمز لإذاعة) وتحتها عبارة تشرح عائديتها.. اذاعة المرابطون.. اذاعة عرفات.. اذاعة الكتائب.. اذاعة امل.. اذاعة... الخ... واعلى الرسم كتبت عبارة واحدة.. "سيداتي سادتي.. هنا لبنان!"

لا شك ان المغزى من الرسم واضح تماما، وواقع لبنان حينذاك، معروف ايضا، فالبلد كان موزعا بين قوى عقائدية وسياسية مختلفة، اذكتها صراعات الدول العربية وغير العربية من تلك التي وجدت لها انصارا او صنعتهم في هذا البلد الذي بات ميدانا مفتوحا لتصفية الحسابات.

محنة هذا البلد بدأت بعد قرار الدول العربية في مؤتمر القمة الاستثنائي، الذي عقد في القاهرة يوم 23-9-1970 (قاطعه العراق وسوريا والجزائر والمغرب) نقل فصائل المقاومة الفلسطينية من الاردن الى لبنان على خلفية احداث ايلول الشهيرة في العام 1970 حيث انقسم اللبنانيون بين مؤيد ورافض، ولكل من الفريقين مؤيدون في البلدان العربية وغيرها، ما جعل الامور تتعقد بعد ان تحول الدعم المالي والعسكري الى سلطة ونفوذ في بلد فقد مركزية الدولة وقوتها، لتتعدد مراكز القوى ويتكرس الانقسام، لاسيما بعد ان افرز الصراع زعامات باتت تتمسك بمكاسبها على الارض.

استثمرت اسرائيل انشغال اللبنانيين ببعضهم، فاجتاحت دبابات شارون لبنان ودخلت بيروت صيف العام 1982 وسط صمت رسمي عربي وترقب دولي. فإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان لم يكن هدف بعض اللبنانيين فقط، وانما ايضا بعض الحكام العرب والمؤكد اهم عواصم القرار الدولي، لاسيما واشنطن ولندن وغيرهما، على امل التمهيد لتسوية القضية الفلسطينية، بعد ان دشن السادات هذا المشروع الذي تعثر بسبب انقسام العرب بشأنه، والذي وجد صداه في لبنان.

عموما، باتت كفة جبهة التسوية راجحة عربيا، غير متناسين ان العراق كان في حالة حرب مع ايران، ومصر وقعت اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع اسرائيل، ما يعني ان الثقل العربي الحقيقي بات خارج المعادلة.

اسرائيل بعد احتلالها مناطق في جنوبي لبنان العام 1978 بما سمي "عملية الليطاني"، عملت على استمالة "جيش لبنان الجنوبي" الذي تشكل في مرجعيون العام 1976 وحدثت مواجهات بينه وبين الفصائل الفلسطينية التي تنفذ عملياتها ضد اسرائيل من هناك، يغذيها بالتأكيد الموقف المشار اليه من المقاومة الفلسطينية. فجل هذا الجيش البالغ عديده 6000 من المسيحيين وبعض المسلمين، وكان الرائد سعد حداد على راسه، وخلفه بعد موته انطوان لحد، وقد حظي بدعم اكبر بعد احتلال لبنان في العام 1982 وظلت تسنده قطعات عسكرية اسرائيلية. لكن عمليات مقاومة مسلحة قد بدأت في الجنوب، وظهر اسم حزب الله الذي حسم المعركة لصالحه في العام 2000 وانسحبت القطعات الاسرائيلية بأمر من ايهود باراك، رئيس الوزراء وقتذاك، فانهار هذا الجيش تلقائيا، لتصبح اسرائيل في مواجهة مباشرة مع عدو عقائدي جديد على (حدودها الشمالية). وهنا اعلن الانقسام اللبناني عن نفسه ايضا، فهناك من يرى اسرائيل عدوا لحزب الله والمتحالفين معه وحدهم، وان على لبنان ان يجري مفاوضات تسوية مع اسرائيل لحل مشكلة الحدود معها على غرار ما قامت به مصر والاردن بعدها، لان لبنان غير قادر على تحمل كلفة مواجهتها عسكريا، بينما يرى الطرف الاخر، حزب الله وحلفاؤه، انه بات جزءا من محور الممانعة الذي يتجاوز لبنان ليشمل دولا عربية واقليمية، ولابد من تحرير ما تبقى من الاراضي اللبنانية وفلسطين كلها، كهدف نهائي ليتحقق السلام.

اتفاق الطائف الذي وقع في العام 1989 لم يفلح في انهاء حالة الانقسام، ولعله انهى ظاهريا حالة العداء التي ظلت مستمرة بين الفرقاء اللبنانيين، بسبب خلافاتهم الجوهرية التي تذكيها باستمرار التدخلات الخارجية، وظلوا عالقين وسطها الى اليوم.

ما حصل مؤخرا من انفجار مروع في مرفأ بيروت، لا يمكن قراءته خارج كيمياء هذا الخلاف المستفحل ولوجستياته الخارجية وكواليسها المظلمة، الامر الذي سيبقي لبنان رهينة هذه التجاذبات التي مالم يتجاوزها اللبنانيون، سيبقون يدورون في حلقة مفرغة من العنف والفقر وغياب التنمية.. وستبقى صورة الكاريكاتير التي نشرت قبل عقود، تعكس صورة لبنان المتجدد داخل خلافاته، وتقول ايضا.... هنا لبنان.. وهذه صورته التي لم تتغير بعد!