سيرة ليا يبّي، تساؤلات حياة وعائلة ووطن يبحث عن الحرية

سيرة الألبانية أستاذة النظرية السياسية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بكلية لندن الصادرة بعنوان 'حرة.. بلوغ عند نهاية التاريخ' تصوع التاريخ العائلي والذاتي والوطني لبلادها بأسلوب أدبي مفعم بالصور والرؤى العميقة.

 

يخطئ من يظن أن كتابة المثقف والمبدع والفنان وحتى الاقتصادي والسياسي وغيرهم من مختلف مجالات الحياة لسيرته الذاتية، أنها مجرد رصد وتسجيل شيق لذكريات نشأته وحياته وما جرى بها وشهدته من وقائع وأحداث، إذ الحقيقة أنها تشكل رؤى ووجهات نظر الكاتب وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره إزاء كل ما أحاط به وجرى له واشتبك معه وعايش تحولاته إنسانيا واجتماعيا سياسيا وثقافيا وفكريا، انطلاقا من دائرة العائلة، ومرورا بالذات والجسد والروح، وانتهاء باتساع العالم الذي يضج بالتساؤلات والأيديولوجيات والصراعات والتناقضات.

وهذا ما يتجلى في سيرة الألبانية أستاذة النظرية السياسية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بكلية لندن ليا يبّي، الصادرة عن دار الفرجاني بعنوان "حرة.. بلوغ عند نهاية التاريخ"، والتي ترجمتها وقدمت لها المترجمة الليبية فرج الترهوني. يضاف إلى ذلك أن سرد يبّي على الرغم من الانشغالات السياسية والأيديولوجية التي تستحوذ على جانب مهم من مذكراتها، إلا أن هذا السرد يتمتع بلغة فنية وجمالية أدبية وأفق ثقافي واسع، فقد صاغت التاريخ العائلي والذاتي والوطني لألبانيا بأسلوب أدبي مفعم بالصور والرؤى العميقة. حتى ليمكن القول أننا أمام نص إبداعي متكامل العناصر.

الترهوني بدأت مقدمة ترجمتها متسائلة: ما المتعة وما الفائدة التي قد يجدها المرء في قراءة السيرة الذاتية والمذكرات؟ سؤال يتردد كثيرا. قد تكمن الإجابة عليه في الفضول البشري في الاطلاع على أسرار الآخرين وخصوصياتهم، وقد تكون أيضا للتعلم وأخذ العبر من خلال إجراء المقارنات.

أكدت الترهوني أن سيرة ليا يبّي سيرة استثنائية، حيث تقدم وصفا دقيقا لحياة عائلة ألبانية، قد تعود وقائعها إلى بدايات القرن العشرين، قبل أن تصبح البلاد دولة شيوعية أصولية تُزايد في تمسكها بالمبادئ الشيوعية على قطبي الحركة آنذاك، وهما: الاتحاد السوفيتي والصين، بعد أن قسم نظام أنور خوجه العالم إلى معسكرين: "الإمبرياليين" المتحالفين مع واشنطن، و"التحريفيين" المتحالفين مع موسكو. وكانت ألبانيا منغلقة على نفسها، مثل كوريا الشمالية اليوم، تناصب الجميع العداء، وتصف النظم الشيوعية الأخرى بالتحريفية. وأنها لا تختلف في شيء عن النظم الإمبريالية في الغرب. أما كيف تمكن نظام خوجه المستبد القمعي من الصمود والاستمرار طوال الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي بعد خمس سنين من وفاته، فتلك قصة مثيرة تستحق الدراسة والبحث، وقد يجد القارئ المهتم في سرد الكاتبة لسيرتها تفسيرا لرؤيتها حول الشيوعية والاشتراكية والليبرالية والفساد الذي ينخر في هيكل النظم الاستبدادية؛ ما قد يقدم إجابة للسؤال السابق.

وتقول إن المثير في سرد ليا يبّي لحكاية عائلتها، ولتاريخ ألبانيا الحديث، ما نراه من تماه شديد مع حكاية وطني ليبيا، وربما مع بلدان أخرى، شاء حظها العاثر، مع اجتماع ظروف معينة، بأن تقع بين سندان الظرف التاريخي المعقد ومطرقة الاستبداد، فيقع الضيم على غالبية الشعب، وتتعرض كافة مناحي الحياة للدمار والفساد. أما الخراب الأكثر فهو ما يحدث للمواطنين فيصرون أشبه بالدمى البشرية بطريقة "أورزيلية" مضحكة ومحزنة في الوقت نفسه. ولعل في حكايتي علبة الكوكا كولا الفارغة، التي لم تكن مجرد علبة، فارغة، بل أصبحت قطعة ثمينة للغاية، لدرجة أن عائلة يبّي اختلفوا مع جيرانهم المفضلين بعد اختفائها. ثم طوابير الحصول على الحليب والمواد الغذائية ـ ما يكفي يتعرض له المستبد بهم من معاناة وأذى شديدين.

وتلف إلى أن التمعن في الفقرة التالية التي أعقبت أول انتخابات ديمقراطية بعد الاطاحة بنظام أنور خوجه الذي مرت خمس سنوات على موته، يتبين مدى تأثير نظم الاستبداد على الشعوب حتى بعد اختفاء رموزها، وتأتي الكاتبة على سيرة الانتفاضة (الحرب الأهلية) التي أدت في النهاية إلى نبذ النظام الاستبدادي الذي أعقب نظام خوجه، حيث تقول يبّي:

"أعلن البرنامج الإخباري عن احتلال مجموعات من الأهالي في القرى النائية في الجنوب للشوارع؛ كانوا يحملون صورا لأنور خوجه، ويهتفون شعارات مؤيدة للشيوعية، ويحذرون الناخبين من أنه لن يمر وقت طويل قبل أن تندم البلاد على هذا اليوم. ووصف الصحفيون احتجاجات الحنين إلى الماضي هذه بـ "الاحتجاجات المضادة" لتمييزها عن الاحتجاجات الحقيقية ضد الحكومة التي حدثت في الأسابيع السابقة. وعلقت جدتي قائلة: "هؤلاء فلاحون. فماذا يعرفون؟". تلك المجموعات المكونة من الفلاحين والعمال وأعضاء الشباب الشيوعي المتشدد، كانت في الواقع تسمى رسميا: "متطوعون للدفاع عن ذكرى أنور خوجه". كانوا قد بدأوا في التجمع قبل أسابيع قليلة من الانتخابلت، عندما تم تدمير تمثال خوجه. كانت قيادة الحزب قد صرحت ردا على ذلك أنه "يمكن إزالة تماثيل القائد النصفية، ولكن لا يمكن إسقاط شخصية أنور خوجه". لكن أولئك المعارضين المحتجين لم يتمكنوا من وقف مجريات الأحداث، ومثل الأشخاص الذين يتدلون من صخور جرف هاو، فقد تمسكوا بالرموز القليلة المتبقية من الإرث الشيوعي للبلاد. جزئيا؛ لأنهم كانوا يخشون المستقبل أيضا، لكن خلافا لعائلتي، لا يزال العديدون منهم مرتبطين بالماضي، حيث كان الحزب يتحدث باسمهم دائما ويتصرف نيابة عنهم. كانت عائلتي ضحية لعنف الدولة، وهم كانوا القابلات لذلك العنف".

وتضيف الترهوني "أو في قصة الجارة دونيكا، التي لم تعرف شيئا عن سائل تنظيف غسالة الصحون، واستخدامه كشامبو للشعر؛ فأصيبت بالحكة. أو حادثة التجسس على رسائل المواطنين وفتحها من قبل الأجهزة المختصة، وبحكم العادة ، استمر هذا النهج، حتى بعد سقوط النظام الشيوعي. وجملة والدة "يبّي" المعارضة بأن "خصخصة مؤسسة البريد، وفقط الخصخصة، هي التي يمكن أن تحترم الخصوصية"، وتأكيد دونيكا، على أن الخصوصية مهمة. "ليست مهمة فقط، إنها حقك. إنها حق"، وهي التي فتح رسائل الناس من ضمن متطلبات عملها تخت راية النظام السابق. أو تلك الحكاية المتكررة، التي لا شك قد خبرها الكثيرون، في قصة تحولات طبيعة وحياة الناس في أمر الطبيب البسيط والعضو السابق في الحزب الشيوعي، باشكين سباهيا، المذكور في الفصل 11 الذي كانت زوجته تعمل بصاصة لدى الأجهزة الرسمية، عندما انتقل فجأة إلى مرشح ونائب معارض، وكيف تحول بعد فوزه في الانتخابات إلى شخص انتهازي استبدل قميص "أحلام سعيدة" بساعة رولكس، واستبدل سترة بريجنيف، ببدلة ماركة هوغو بوس "حينما أغلق باب سيارته الداكنة اللامعة من طراز مرسيدس بنز، محاطا بحراسه الشخصيين الأقوياء"، وصار رجل أعمال ناجحا للغاية.

إن سيرة يبّي هذه تمتلئ بالرؤى حول العلاقات الأسرية بقدر ما يتعلق بالسياسة. فيبّي تشوه الستالينية ـ نسبة إلى جوزيف ستالين الذي حكم الاتحاد السوفيتي ما بين 1941 و1953 ـ كما عرفتها وخبرتها، وتعمقت في دراسة النظم السياسية المقارنة انطلاقا من تجربتها، والأهم أنها تحاول الاجابة عن السؤال المهم: ما هي الحرية؟. وتسهب في الحديث حول نشأتها أثناء انتقال ألبانيا من الشيوعية الشمولية إلى الرأسمالية الليبرالية، وهي قصة طفولة عانت كثيرا، وتقول حول هذا "كانت الأمور في اتجاه ما، ثم أصبحت في اتجاه آخر. لقد كنت شخصا ما، ثم أصبحت شخصا آخر".

لقد كنت شخصا ما، ثم أصبحت شخصا آخر

وترى الترهوني أن يبّي توضح كيف اختفى أفراد الأسرة في معسكرات الاعتقال، أو قتلوا أو انتحروا؛ وكيف صار الأصدقاء وزملاء الدراسة والزملاء مخربين للسلطة؟ وكيف كتب أطفال المدارس تقارير تفيد بأن المزارع الجماعية تجاوزت أهدافها المتعلقة بإنتاج الحبوب بموجب الخطة الخمسية الأخيرة. هذا لا يعني أن الرأسمالية كانت أسوأ – فلم تقلل يبّي أبدا من قسوة وعبثية الحياة في ظل دولة خوجه الستالينية - وتقول إنها فقط كانت نوعا مختلفا من السوء، وأنه في حين يمكن لكليهما أن يعدا بنوع من الحرية ويحققاه، فإن كلا منهما لديه مجموعة من المساوئ الخاصة به.

وتقول يبّي في سيرتها "كنت قد نشأت على قناعة بأن عائلتي تشاركني حماسي للحزب الشيوعي، والرغبة في خدمة الوطن، وازدراء أعدائنا، والقلق من عدم وجود أبطال حرب في عائلتنا لنتذكرهم ونفخر بهم. لكن هذه المرة بدا الأمر مختلفا. أسئلتي حول السياسة والبلد والاحتجاجات وكيفية شرح ما يجري لم تجد سوى إجابات مختصرة ومراوغة. أردت معرفة لماذا طالب الجميع بالحرية إذا كنا بالفعل واحدة من أكثر البلدان حرية على وجه الأرض، كما قالت المعلمة نورا دائما. عندما أذكر اسمها في البيت، يدير أبواي أعينهما. وبدأت أشك في أنهما ليسا في أفضل وضع للإجابة عن تساؤلاتي، ولم أعد أثق بهما. ليس فقط لأن أسئلتي حول البلد لم تلق الإجابة؛ بل تساءلت الآن أيضا عن نوع الأسرة التي ولدت فيها. كنت أشك فيهم، ووجدت من خلال الشك أن قبضتي على هويتي وعلى من أكون بدأت تنزلق".

وتضيف "أنا الآن على علم بشيء لم أفهمه بوضوح في ذلك الوقت، فالأنماط التي شكلت طفولتي، وتلك القوانين غير المرئية التي أعطت بنية لحياتي، وتصوري للأشخاص الذين ساعدتني أحكامهم على فهم العامل - كل هذه الأشياء تغيرت إلى الأبد. في ديسمبر 1990، سيكون من المبالغة القول بأن اليوم الذي عانقت فيه ستالين هو اليوم الذي أصبحت فيه راشدة، وهو اليوم الذي أدركت فيه أنني مسؤولة عن فهم حياتي الخاصة. لكن ليس من المستبعد القول إنه اليوم الذي فقدت فيه براءة طفولتي. وتساءلت لأول إن كانت الحرية والدميقراطية قد لا تكون هي الحقيقة التي نعيشها، بل هي حالة مستقبلية غامضة لم أكن أعرف عنها سوى القليل. جدتي تقول دائما إننا لا نعرف كيف نفكر في المستقبل؛ ويجب أن نأخذ العبر من الماضي. بدأت أتساءل عن قصة حياتي وكيف ولدت وكيف كانت الأمور قبل أن أكون هناك. حاولت التحقق مرة أخرى من التفاصيل التي ربما تكون مشوشة لدي، وأنا أصغر من أن أتذكرها بشكل صحيح. تلك كانت قصة سمعتها مرات لا تحصى من قبل. قصة واقع ثابت وجدت فيه دوري شيئا فشيئا، مهما كان معقدا. هذه المرة كان مختلفا. هذه المرة ليست هناك نقاط ثابتة، كان لابد من إعادة ترتيب كل شيء من الصفر. لم تكن قصة حياتي هي قصة الأحداث التي في فترة معينة، بل قصة البحث عن الأسئلة الصحيحة، أي الأسئلة التي لم أفكر في طرحها من قبل مطلقا.