شادي كسحو يحلل أطروحات بودريار الفلسفية

الباحث السوري ينطلق من تمهيد كاشف لتجليات بودريار الفلسفية ليدخل بعدها إلى متلازمات ما بعد الحداثة عنده.
كسحو يرى أن جان بودريار ببساطة شديدة، فيلسوف غريب
ثمة ما يشبه ثقة نبي بنفسه تطالع أي قارئ لبودريار

كيف يمكن لفيلسوف أن يقبض على عالم قرر الهروب من ذاته والعيش فوق ذاته أو ربما تحتها دون أن يترك أثرًا عن مكانه؟ هل يمكن تفكيك المفكك على طريقة دريدا؟ أو تأمل الهروبي والمطرود من ماهيته على طريقة هرمنيوطيقا ريكور؟ كيف نصف الذات على طريقة جوديت بتلر في عصر طوفان الموضوع؟ كيف نؤمّن حوارًا عادلًا بين الذات والموضوع على طريقة جورج غادامر في عصر ذكاء الموضوع؟ كيف نضع جينالوجيا للإيروس على شاكلة جورج باتاي في عصر فقدان وظيفة الجسد؟
هذه التساؤلات تشكل المحرك والمحرض الأبرز لتحليلات للباحث السوري د.شادي كسحو لعالم ‏الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع الثقافي جان بودريار، وذلك في كتابه الصادر أخيرا بعنوان "الهجرة إلى اللايقين.. أطروحات بودرياريّة"، حيث يبحر في ذلك العالم الثري بالرؤى والأفكار الفلسفية بعمق وسلاسة قلما نرصدها لدى دارسي ومتخصصي الفلسفة الغربية والعربية على السواء. ينطلق كسحو من تمهيد كاشف لتجليات بودريار الفلسفية ليدخل بعدها إلى متلازمات ما بعد الحداثة عند بودريار ثم مصطلح المصطنع أو الهوية الأنطولوجية الجديدة للعالم واستطيقا الزيف وألعاب الفن في عصر الديجتال وينتهي بجماليات العمارة الهايبريالية.
يرى كسحو في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر أن جان بودريار ببساطة شديدة، فيلسوف غريب. الفلسفة لديه نقطة هروب، شكل شعري أو وسواسي للتفكير في العالم. معه تهرب الفلسفة من الخطاب لتكون شكلًا من أشكال الكلبية المعاصرة، نمط شذري ومتقطع يشبه شواهد القبر، حيث تتوالد لانهائية الممكن من موت العالم الواقعي. ثمة موضوعات محددة تؤرّق ذهن بودريار، موت الواقع، الشر، الصورة، الفراغ، الخواء، العدم، التبادل المستحيل. والتي نظلّ نطاردها في كل نص أو كتاب من كتب بودريار دون أن نقدر على الإمساك بها. 
ثمة ما يشبه ثقة نبي بنفسه تطالع أي قارئ لبودريار، ثقة أفكار معزولة ومغزولة من تأملات نزقة وانفجارية لا تتوخى شيئًا خارجها. الكتابة كما لو أنها صدى كارثة ما، أو ظلّها الأكيد والمحتوم. 

philosophy
الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع الثقافي جان بودريار

ويلفت إلى أن المرء يحار كيف يكتب عن فيلسوف مثل جان بودريار؛ فهو ماركسي بل ماركسية، وبنيوي بل بنيوية، وما بعد حداثي في الروح والأسلوب دون أن يجاهر بذلك، وهو عدمي أيضًا، لأنه ينسف كل الثنائيات ويتجاوزها. إن فلسفته لا ينتظمها مركز تدور عليه، وإنما هي مركز نفسها ذاته. حدوس خالصة تسترسل في وصف عالم خرج عن طوره جملةً وتفصيلًا وراح يتأمل انكساراته عبر مرايا الزمن. سيلان من التأملات والنعوت على كل ما سطّرته الحداثة بآلتها المهيبة. لا يتوخى بودريار تحذيرًا ولا إرشادًا، إنه لا يكتب ليثبت شيئًا، ولا ليستجلي حقائق طمرها الزمن، بل ليفضح زيف العالم، كذبه، لا تعادله، وهمه، خواءه السرمدي.
ويتابع أن بودريار من طينة الفلاسفة الذين يولدون هكذا دفعة واحدة. مزيج غريب وجميل من تحليلات الفلاسفة اجتمع لدى الرجل مع أسلوب لغوي ساحر ومكثّف ومقتضب. لا يميل بودريار إلى الشرح كثيرًا، إنه مسكون بتوتر فلسفي تجاه أي أساس أو مصدر أو يقين. ثمة سمة فريدة تميز بودريار برأيي وتجعله ذا طابع استثنائي، وهي أن فلسفته متاخمة كليًّا لأفق الانفلات الذي يسم العالم المعاصر، متاخمة للاستحالة والغليان والافتتان المصاحب لمشهد ومشهدية عالمنا الراهن.
ويشير كسحو إلى أن صيغة التفلسف على طريقة بودريار تميل عمدًا إلى التحول من نشاط فلسفي قائم على تاريخ الفلسفة، دولوز مثلًا، إلى تساؤل جذري عن الوجود الآن ها هنا. ربما كان كل ما يريد بودريار قوله: هو كيف أن واقع العالم الذي يعيش فيه الإنسان وينتمي إليه بطريقة ما، هو في كل مرة نتاج شكل معين للوجود؛ فالواقع أو الوجود في العالم ليس حدثًا شعريًا مجردًا، بل هو حدث وجودي خاص وفريد، أي أنه وجود بذاته وثمرة من ثمرات التحولات الحضارية الكبرى التي طرأت وتطرأ على واقع العالم؟ ذلك يعني أن بودريار إنما يشرع بالتفلسف دون أن يكون مضطرًّا للقدوم إلينا من الماضي، بل على العكس تمامًا، إنه الفيلسوف الذي سيأتي إلينا من عمق التغيرات الراديكالية في أفق وجوداتنا الحالية. إن المصطنع - بما هو مفتاح كل فلسفة بودريار- هو منذ الآن الأفق الأنطولوجي للإنسية الراهنة، ونحن مطالبون إذ ذاك بفهم وتشقيق هذا الأفق، لأنه أفق وعينا بأنفسنا. المصطنع، أو الما فوق واقعي أو الهايبريالي، هو منعرج حيوي في أفق البشرية الراهن. إنه حدث أنطولوجي على درجة عالية من الخطورة، وليس مجرد ظاهرة علمية أو سوسيولوجية.

كل تاريخ الفلسفة هو محاولة لإجراء نوع من الالتئام بين الفكر والواقع. بين الظواهر وبنيتها الحميمة. بين الذات والموضوع. بين الصيرورة وإرادة القوة. بين الصورة وأصلها

ويؤكد أن تغير الهوية الأنطولوجية للعالم هو الحدث الأساسي الذي يختصر كل السيرة الذاتية لفلسفة بودريار. لقد تحول كل شيء فجأة إلى حدث رقمي؛ إذ لم يعد بالإمكان فهم الأشياء في فرادتها وثباتها، ولا في جواهرها كما كان الحال قبل بروز الثورة العلمية والتقنية، وإنما بوصفها أحداثًا ضمن سلسلة طويلة من الأحداث السابقة واللاحقة. إننا شهود على دخول البشرية عصر المؤقت والسريع الزوال، فجرّاء البث الفوري في الزمن؛ زمن الضوء، زمن العدسة، زمن الشاشة والعمل الافتراضي من على مسافات بعيدة، بات كل شيء راهنًا، أو مؤقتًا، أو ناتئًا، بانتظار الطارئ والمفاجئ من الرسائل والمعطيات المتغيرة باستمرار؛ فما يحدث أو يقال اليوم قد يتغير أو يُدحض غدًا.
ويلاحظ كسحو أن أكثر ما يلفت الانتباه في فلسفة بودريار هو أسلوبه. ويقول "يُخيَّل للقارئ غير المنتبه أنه أمام استعراض لغوي، أو مهرجان من المفردات المتنافرة. مجاز مستحيل هنا، وعبارة غريبة دون سياق هناك. لا أحد ينجو من الغواية ولا حتى الموتى. الجنسانية في كل مكان باستثناء الجنس. يدفع بودريار باللغة من كل الجهات لتعبر عن أقصى معنى ممكن. مثله مثل نيتشه الذي كان مغرمًا بالكلمات ذات الوقع الخاص، تلك الكلمات الحزينة والمعزولة التي سقطت من استخداماتنا سهوًا لتحل مكانها كلمات عرجاء. 
لن يجد المتفحص لتأملات بودريار مفاتيح فهم عقلاني وكوني وسستامي للعالم، كل شيء في هذا المتن تفوح منه رائحة نيتشه وسيوران بكل الغليان والعبق الذي يعتري لغتهما. ربما كان بودريار واحدًا من أولئك النيتشويين القلائل الذين يصطادون مفاهيم وكلمات فخمة بغية تأمل العالم. شكل "أفورزمي" وسواسي وجحيمي للتفكير في العالم. هنا حيث لم يجد دوغلاس كلنر بديلًا عن الاعتراف بأن ما يميز نصوص بودريار بالفعل هو "نكهة البلاغة النيتشوية وأسلوبها". ثمة كتّاب يتكلمون عن المفهوم، عن الوجود، عن الكارثة، بودريار واحد من أولئك الذين تتكلم المفاهيم فيهم، ولو بالمجاز، ولو بالصمت أو النسيان".
يقول كسحو أن بودريار أعلن جهارًا نهارًا على إحدى صفحات كتابه العمدة "المصطنع والاصطناع" أنه عدمي. ويتساءل: إلى أي عدمية ينتمي بودريار؟ هل هي عدمية نسيان الوجود بفعل الفائض التقني كما هي عند هيدغر؟ أم عدمية أدورنو القائمة على اضمحلال المعنى؟ أم عدمية نيتشه الناتجة عن انهيار القيم الديونيسية وسيادة قيم الانحطاط؟ ويضيف أن "عدمية بودريار قائمة على عدم التماثل، أو على اللاتعادل بين الذات والموضوع. بين الإنسان والعالم. بين الابن والأب. إن مغامرة العالم المعاصر؛ العالم الذي فقد قدرته على تأمل نفسه، تتطلب مجازفة تفكير قصوى في حجمها. 
هنا بالذات تبدأ العدمية في الظهور والانبلاج في متن بودريار. من على حافة عالم خرج عن طوره ولم يعد كما كان. يقول بودريار "ليست العدمية مظلمة وفاغنرية وشبنغلرية وقاتمة، كما في نهاية القرن. وهي لم تنشأ عن الرؤية الكونية للانحطاط، ولا عن جذرية ميتافيزيقية متولدة من موت الله. العدمية اليوم هي عدمية الشفافية، وهي بمعنى ما، أكثر جذرية وأكثر أهمية من كل أشكالها السابقة والتاريخية، لأن هذه الشفافية هي شفافية النظام بالذات.. عندما مات الله، كان هناك نيتشه ليعلن ذلك. ولكن أمام الشفافية المصطنعة لكل الأشياء، أمام مصطنع الاكتمال المادي أو المثالي للعالم في فوق- الواقعية. الله لم يمت بل أصبح فوق- واقعيًا. لا يوجد الله نظريًا ونقديًا ليعترف بأبنائه". 

philosophy
الباحث السوري د. شادي كسحو

ويرى أن "العدمية وفق التصور الذي يصوغه بودريار، ليست سوى دخول البشرية الحالية ضمن عتبة جديدة، هي عتبة الشفافية الناتجة عن عالم فقدَ كل مرجعياته وإحالاته وراح ينتج ويعيد إنتاج نفسه بلا طائل. الشفافية هي الاسم الثاني للعدمية عند بودريار. استراتيجية الانفصال الخالص. الرائع والمريع الذي يخفي كواليسه. أو البرزخ البراق الذي ينزع كل إمكانية للتحقق من الوجود، فهو يحركه دائمًا في اتجاه ما ليس هو، وما لا يحيل إليه. وهذا يعني أن العدمية التي تجد في شفافية العالم الراهن شكلها الأمثل، ليست يوتوبيا افتراضية كما يصور فلاسفة العلم، ولا تعديلًا تقنيًا على أشكال فهمنا للوجود، بل تعني نوعًا من الواقع المطهَّر أو المبخَّر بالصور. المصطنع ذاته، الوجود الهايبريالي، أو الوجود المطرود من ذاته إلى ما فوقها. بحذف الإحالة يصبح كل شيء شفافًا وشفيفًا ومنذورًا لتأمل لاوجوده الخاص. عدمه الخاص".
ويوضح كسحو "ربما ستكون عدمية بودريار هي هذه الفوضى الديجتالية العارمة التي تجتاح العالم، وتُخل بكل توازناته ومعاهداته واتفاقاته الكلاسيكية. تلك الفوضى البراقة التي تجعل العالم متوالية لا تنتهي من الصور التي تتناسل دون أن يكون لها أي قدرة أو قرابة مع العالم. لقد أقصت الصورة الموضوع الذي كانت تبتكره كأصل لها. من على هذه المنصة تحديدًا، علينا أن نفهم عدمية بودريار وما بعد حداثته. العدمية بما هي تبديد للصلة التي تربطنا بالعالم. تدمير ميديائي يبذّر نفسه وينفقها ويقوم بمبادلتها بعالم صنعي ومفبرك كليًا".
ويتابع " كل تاريخ الفلسفة هو محاولة لإجراء نوع من الالتئام بين الفكر والواقع. بين الظواهر وبنيتها الحميمة. بين الذات والموضوع. بين الصيرورة وإرادة القوة. بين الصورة وأصلها. ولكن ماذا لو أن الصورة أصبحت تكتسي وجودًا مستقلًا عن بنية المصوَّر؟ ماذا لو أنها أصبحت ضده الأبدي؟ هذا هو الحدس الفلسفي الأكثر أصالة الذي يمكن تسجيله تحت اسم بودريار. يتعلق الأمر بمصطلحات نيتشوية بحلول أبولون محل ديونيسيوس. أبدية المظهر. سرمدية الشكل. في مقابل ديونيسيوس المنذور للنسيان والاختفاء. 
لم يعد ثمة متسع للتصالح بين المتناقضات. بل لم يعد ثمة متسع للعالم ولآخريته معًا. لقد حلّ الاصطناع محلّ كل الأشياء. ذاك هو السلاح السري لعدميتنا الخالصة بحسب بودريار فـ"العدمية لم تتحقق في التدمير فحسب، بل في الاصطناع والردع. انتقلت العدمية من استيهام فعال وعنيف، إلى مجرى الأشياء الشفاف".