شبابنا والعنف التلفزيوني

تأثيرات التليفزيون والفضائيات تثير اهتمام العديد من الباحثين والعلماء الذين كرسوا وقتهم وجهدهم في البحث عن تلك التأثيرات الناتجة من مشاهدة وسائل الإعلام بمضامينها المختلفة.
من المداخل التي تطورت لتصل إلى مفهوم النظرية نظرية الغرس الثقافي للعالم جورج جيربنر
انتشار القنوات الفضائية المتخصصة كوسيلة مرئية أمر يُثير الخوف لما تقدمه من أفلام عربية وأجنبية تحتوي على مشاهد عنف

أثار- ولا يزال- موضوع تأثيرات التليفزيون والفضائيات اهتمام العديد من الباحثين والعلماء الذين كرسوا وقتهم وجهدهم في البحث عن تلك التأثيرات الناتجة من مشاهدة وسائل الإعلام بمضامينها المختلفة، وهذه الدراسة للباحثة د. غادة ممدوح والتي عنونتها بـ "العنف الإعلامي: سيكولوجية العدوان نفسيًا واجتماعيًا" تأتي لتضيف أبعادا جديدة للموضوع حيث ناقشته في ثلاثة فصول انطلاقا من سيكولوجية العنف والعدوان وتحديد مفهوم وأشكال العنف والعدوان، وتناول أنواع تأثيرات وسائل الإعلام، بما فيها تأثيرات العنف الإعلامي، بالإضافة إلى شرح واف للعنف في معظم الوسائل من صحف وفيديو وتليفزيون وفضائيات وإنترنت، وتحليل المداخل النظرية المفسرة للعنف والعدوان بالوقوف أمام معظم النظريات المفسرة لظاهرة العنف والعدوان سواء من وجهة نظر علم النفس والاجتماع والجريمة أو من وجهة النظر الإعلامية. وأخيرا تحليل العنف وتأثيرات الغرس الثقافي.
رأت غادة ممدوح المدرس بقسم الإعلام جامعة بنها في دراستها الصادرة عن دار العربي للنشر أن من المداخل التي تطورت لتصل إلى مفهوم النظرية - والتي اهتمت بتأثيرات تلك الوسيلة (التليفزيون) - نظرية الغرس الثقافي للعالم جورج جيربنر الذي كان في مقدمة اهتماماته البحث عن التأثيرات الناتجة من مشاهدة العنف المتلفز على المشاهدين الصغار منهم بل وحتى الكبار، فدار - ولا يزال - النقاش حول تأثير العنف وعما إذا كان هذا السلوك فطريا بالغريزة يرثه الإنسان منذ ولادته أم أنه سلوك مكتسب من البيئة المحيطة، وما بها من وسائل عديدة وفي مقدمتها وسائل الإعلام، فظهر في ذلك اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن العنف ناتج عن أسباب بيولوجية لا دخل للإنسان فيها، وأيدت هذا الاتجاه العديد من النظريات مثل النظرية الوراثية ونظرية التحليلي النفسي لـ "سيجموند فرويد". أما الاتجاه الثاني: فيرى أن من مسببات العنف البيئة والتنشئة الاجتماعية والتعرض لمضامين وسائل الإعلام، وفي ذلك نظرية التعلم الاجتماعي لـ "باندورا" ونظرية التدعيم وتقليل الحساسية".

ضرورة تكاتف كل الجهود الحكومة والمدنية والشعبية والقائمين على إعداد البرامج في موجهة الظاهرة التي تهدد أمن واستقرار شبابنا

وقالت إن لعنف الوسيلة تأثيرات نسبية على جمهور المشاهدين تختلف من فرد لآخر، فليس كل الأفراد يتأثرون وبنفس الطريقة ولكن ثمة مجموعة من العوامل الاجتماعية والبيولوجية والنفسية بل وحتى الاقتصادية والثقافية تتحكم في نسبة هذا التأثر. حيث تساهم مؤثرات عديدة في تشكيل عقلية الأفراد وسلوكهم، وقد أصبحت اليوم على درجة كبيرة من التنوع والكثرة، فإلى جانب مؤسسات التنشئة الاجتماعية من المنزل (الأسرة) والمدرسة والجامعة نجد اليوم أطرافا عديدة تعمل على بناء الفرد والناشئة وصقل شخصياتهم، وتُعتبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة - وعلى وجه الخصوص التليفزيون - الذي يُعد من أكثر هذه الوسائل تأثيرا على الفرد بحكم ما تميز به من الصوت والصورة والحركة والألوان التي تشد الانتباه، حيث يستطيع التليفزيون أن يؤثر على آراء المراهقين والشباب نحو الموضوعات المختلفة والتي من أهمها تأثيره على اكتساب السلوكيات العنيفة، فمنذ أن ظهر التليفزيون ظهرت تنبؤات كثيرة حول احتمالات تأثيره في المشاهدين وكانت تلك التنبؤات اجتهادية ذاتية، وحين بدأت حركة البحث العلمي الإعلامي بالتبلور أمكن الوصول إلى عدد من المؤشرات التي تعطي حقائق عن تأثيرات التليفزيون في المراهقين والشباب.
وأكدت د. غادة ممدوح أن الاهتمام بتأثر الشباب بالعنف التليفزيوني أصبح مسألة ضرورية نتيجة توفر فرص التعرض للبرامج على مدار اليوم، وتزايد ساعات المشاهدة، وانتقاء البرامج من عشرات القنوات وفق رغباتهم وميولهم وكثرة عددية للقنوات الفضائية، وظهور قنوات متخصصة للأفلام، الأمر الذي أدى إلى اتساع مساحة العنف في هذه القنوات. وعلى هذا فإن احتمالات تأثر الشباب بالعنف تتزايد نظرا لأن تلك المرحلة "المراهقة والشباب" تُعد مرحلة النضج والرشد التي من السهل أن تتأثر بكل ما يُقدَم لها من ثمين وغث دون تفريق بين ما هو خاطئ وما هو صالح، فالشباب ثروة كل أمة ومستقبلها ولكونهم هكذا فقد باتت رعايتهم والاهتمام بنشأتهم اجتماعيا وثقافيا وتربويا من القضايا المهمة ولاسيما مع التطورات التكنولوجية المتسارعة في مجال التليفزيون وما أفرزته ثقافة الصورة المرئية من خطاب قد يحمل في مضمونه تأثيرات سلبية كثيرة في مختلف الجوانب على الشباب. من أبرز هذه التأثيرات إثارة العنف والسلوك العدواني، ويضاعف من خطورة هذا التأثير تزايد الوقت الذي يقضيه الشباب في مشاهدة برامج القنوات الفضائية لاسيما الأفلام التي تحتوي على مشاهد عنف كثيرة.
وأضافت "احتلت تلك القنوات المكانة الأولى بين الوسائل الأخرى فتعددها وانتشارها بالإضافة إلى تخطيها للحدود الجغرافية لمختلف المجتمعات صار لها توابع سلبية. فانتشار تلك القنوات الفضائية المتخصصة كوسيلة مرئية في الآونة الأخيرة أمر يُثير الخوف لما تقدمه من أفلام عربية وأجنبية تحتوي على مشاهد عنف وقيم وسلوكيات تختلف عن قيمنا وسلوكياتنا ومعتقداتنا - ولا ننسى في ذلك العنف الناتج عن الظروف الاجتماعية والواقع المعاش - حيث إن ذلك المضمون العربي والأجنبي المشبع بالعنف يلجأ إليه المخرجون كوسيلة لجذب الانتباه وإثارة المشاهدين، ولكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن حيث أن عرض مشاهد العنف على شاشة التليفزيون تثير الرغبة في العنف وتعلم المشاهد أفضل الوسائل لممارستها".
ولفتت غادة ممدوح إلى تعدد التعريفات العربية والأجنبية للعنف والعدوان والتي توصلت جميعها إلى أن العنف سلوك يصدر من فرد ما تجاه الذات أو ضد شخص آخر وقد يكون لفظيا بالسب والشتم والإهانة ويطلق عليه العنف المعنوي، أو جسديا بالضرب والركل وغيرها من الأفعال المادية وهذا هو العنف المادي، ويختلف تفسير العنف حسب تخصصات الباحثين في المجالات المختلفة فعلماء السياسة يعرفونه بطريقة تختلف عن علماء الاجتماع والنفس عن علماء الإعلام والسياسة، والبعض يرى أنه سلوك فطري أي أنه غريزي يرثه الإنسان نتيجة مجموعة من العوامل البيولوجية والفسيولوجية، والبعض الآخر يرى أن العنف سلوك مكتسب يتعلمه الإنسان نتيجة الظروف البيئية المحيطة والتنشئة الاجتماعية والاختلاط بجماعات الأصدقاء. 
وتعددت النظريات المفسرة للعنف والعدوان ونجد أن معظمها قد استبعدت السبب الواحد وإنما كان لتلك الظاهرة العديد من الأسباب التي قد تكون عوامل بيولوجية خاصة بالفرد مرتكب العنف، أو عوامل خارجية كالبيئة المحيطة وظروف التنشئة الاجتماعية.  

تأثير العنف
العنف في وسائل الإعلام 

وهناك اتجاه ثالث يجمع بين الاتجاهين. والملاحظ أيضا أن كل اتجاه من الاتجاهات الثلاثة "الذاتي، الموضوعي، التكاملي" يُكمل الآخر، كما أن تفسير ظاهرة العنف والعدوان لم يقتصر على تلك النظريات فقط، ولكن هناك العديد من النظريات الأخرى مثل: "نظرية الغزو والإساءة، نظرية الهوية، نظرية الزعر، نظرية تزايد العنف في، مرحلة المراهقة، نظرية الذكاء الانفعالي، النظرية النظامية، النظرية الانفعالية، النظرية الفينومنولوجية"، أيضا يجب ألا نغفل دور المدرسة الإعلامية في تفسيرها لتلك الظاهرة التي طالما شغلت بال الباحثين والعلماء باختلاف تخصصاتهم، فمنهم من يرى أن لمشاهدة العنف الإعلامي تأثيرات ضارة على جمهور المشاهدين وأيدوا وجهة نظرهم بنظرية التعلم الاجتماعي، ومنهم من يرى أن لمشاهدته تأثيرات إيجابية "نظرية التنفيس"، بالإضافة إلى نظرية الغرس الثقافي. وهناك رأي ثالث يرى أن مشاهدة العنف ليست ضارة وليست مفيدة ولكن ثمة مجموعة من العوامل التي تعزز من تلك التأثيرات، كما أنه ليس كل المشاهدين يتأثرون وبدرجة واحدة. 
وكشفت ممدوح أن العنف في وسائل الإعلام بدأ الاهتمام به منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي وتوصل العلماء أن التليفزيون ليس العامل الوحيد في إثارة السلوك العدواني ولكنه عامل مساعد فثمة مجموعة من العوامل الفسيولوجية والبيولوجية والبيئية وراء تلك الظاهرة، وأنه هناك ثلاثة تأثيرات للعنف الذي يتعرض له المشاهدون في التليفزيون وهي: أنه يؤدي إلى تعلم وتقليد هذا السلوك العدواني، يقلل حساسية الأفراد تجاه العنف نتيجة تعود وتكرار التعرض له فيعمل على تبلد المشاعر والأحاسيس وعدم الاكتراث بعواقب العنف السلبية، وأخيرا فإنه يزيد من خوف الأفراد من أن يصبحوا ضحايا لهذا العنف. والعنف في التليفزيون له نوعان؛ العنف الواقعي من خلال نشرات الأخبار، والعنف الخيالي أو الترفيهي الذي نراه في المشاهد الدرامية من المسلسلات والأفلام، ونجد أن العنف الواقعي أشد خطورة على المشاهدين من الأطفال وخاصة المراهقين.
وقالت "دار الجدل والنقاش حول العلاقة بين العنف المعروض في الأفلام التي تعرض بالقنوات الفضائية والسلوك العدواني الناتج عن تلك المشاهدة في الحياة الواقعية، وتوصل عدلي رضا أن ثمة ثلاثة مجموعات حددت تلك العلاقة: المجموعة الأولى ترى أن العنف له تأثير سلبي على الشباب واستند أصحاب هذا الرأي على نظرية التعلم الاجتماعي حيث إن المشاهد يتعلم السلوك العدواني من التليفزيون ويقوم بتقليده على الفور، أما المجموعة الثانية فترى أن العنف له تأثير إيجابي على الشباب فهو ينفس عن مشاعرهم المكبوتة "نظرية التنفيس والتدعيم"، أما المجموعة الثالثة فهي وسط بين الرأيين السابقين ويرى أصحابها أن مشاهد العنف في الأفلام ليست ضارة وليست مفيدة ولكنها لها تأثير ثانوي فليس كل الشباب يتأثرون بالعنف التليفزيوني وبنفس الطريقة ولكن الشاب الذي لديه ميول عدوانية مسبقة، فإنه أكثر تأثرا من غيره بالعنف في الأفلام، وحدد العلماء - ومنهم "إيرون" - في ذلك مجموعة من العوامل التي يتوقف عليها ردود أفعال الأفراد عقب مشاهدتهم للعنف المتلفز منها: نوع العنف، جاذبية الشخصيات مرتكبة وضحايا العنف، واقعية العنف، العنف المبرر، العنف الذي لا يتم معاقبته ولا يتم إبراز العواقب السلبية الناتجة عنه من الألم والضرر الذي يلحق بضحاياه ومنها ما هو متعلق بجمهور المشاهدين، وفي هذا الشأن نرى ضرورة تكاتف كل الجهود الحكومة والمدنية والشعبية والقائمين على إعداد تلك البرامج في موجهة تلك الظاهرة التي تهدد أمن واستقرار شبابنا.