"شخص كان هنا": الإغتراب وشاعرية الحكي

القاص محمد رفاعي شغوف بتجربة التقنيات القصصية الجديدة، يبحر في أفق قصة الدقيقة الواحدة.
ارتباط قصص المجموعة في مشهدها الكلي بنسق متحد يشبه التتابع
عنوان المجموعة يعطي دلالة تكتمل مع قصة الإفتتاح المستقلة "ليلة أمس"

القاص محمد رفاعي، كاتب شغوف بتجربة التقنيات القصصية الجديدة، يبحر في أفق قصة الدقيقة الواحدة، كما يقتني في مجموعته طراز "حلقة القصص القصيرة"، فهو على درب التجديد كما قيل: "التجريب الذي يثمر التجديد". لذلك كانت مجموعته القصصية "شخص .. كان هنا" والصادرة في سلسلة كتابات جديدة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، لافتة للقارئ والناقد علي سواء، ومثيرة للتأويل والكشف، باعتبار أن "الناقد هو قارئ محترف" بتعبير د. محمود ربيعى، لهذا كلنا قراء يا عزيزى. 
أول ما يلفت التناول النقدي في مجموعة القصص هو ارتباط قصص المجموعة في مشهدها الكلي بنسق متحد يشبه التتابع، وكأن القصص تستدعي بعضها بعضا لتشكل مشهدها الكلي القصصي من البداية حتى الختام، بل واستخدم القاص في متن القصص، وأيضا عبر المشهد الكلي للمجموعة تقنية الفواصل علي نحو نوضحه لاحقا.
والقاص بذلك يقدم رؤية متقدمة حول ما قالت به دراسات أدبية رصينة تحت اسم: "نسق المجموعة القصصية"، هذا النسق يخدم نسيج أفكار القاص، فتكون متحدة موزعة حسب تنويعات ورؤية معينة، فالتجميع لكتاب قصصي غالبا ما تعارف عليه بأنه مما سبق أن دونه القاص من قصص، أو ما سبق له نشره متفرقا لغرض التجميع فقط، أما التناول الحديث للمجموعة القصصية، فيشير نحو ضرورة مراعاة الكتاب كمجموعة قصص من حيث تأثير وضع القصص بجوار بعضها البعض، وهو ما قاله يحيى حقى: "القصة مخلوق بروحين، مرة حين تنشر منفصلة، وأخرى حين ُتجمع مع أخوات لها بين دفتى مجموعة قصصية". والقصص على هذا النحو الأخير هو الذي قام القاص محمد رفاعي ببنائه برعاية ودأب مثابر ودقيق.

ثيمات متكررة تحمل معاني شعاع الغروب، ونضوب الإشراق، وضوء الفجر في غبش واهن من الأمل، وحركة السفر على الأسفلت والطرقات، والمدن الجديدة الموحشة

كما شاهدنا إحدى قضايا الشكل التي تحمل دلالة مهمة كمؤشر للتقويم النقدي، وهي قضية "التوثيق"، وهي هنا ذات دلالة واعتبار، ويقصد بالتوثيق كتابة تاريخ ومكان كتابة القصة، والمجموعة القصصية المكونة من (22) قصة قصيرة بكافة آفاق التجريب فيها، نجد أن نصفها عبارة عن (12) قصة جرى تدوين تاريخ كتابتها، وقصة وحيدة فقط ُختمت بمكان كتابتها فى "مدينة السادس من أكتوبر" وهى قصة "حلب"، لعله أراد ان يزيل أي إلتباس عن عنوان القصة. أما تواريخ القصص الاثنتي عشرة المذكورة، فتبدأ من مارس/آذار 1994، إلى يوليو/تموز 2007، وعلي ذلك يعتبر مدى القصص التقريبي فترة ثلاثة عشر عاما، وهي فترة تحمل رصدا وتطورا للنواحي الفنية والموضوعية أيضا لدى القاص شملت أيضا قصة الدقيقة الواحدة، كما أعطت ملمحا حول رحلة الإغتراب الطويلة، الروح السارية في أوصال هذه القصص.
هذه الرعاية والدقة في البناء والإنتقاء من مجموعة من القصص المكتوبة عبر مدى تقريبي يمتد عبر ثلاثة عشر عاما كما أشرنا، تؤكد إنتماء القصص إلى عالم واحد ذي تنويعات ثرية، وإلى ألم دفين يعتري القاص ويمضه، وهو كون "الغريب" شجرة منزوعة من جذورها تحولت إلى شتلة يجري زرعها في أرض دون أرضها، فتفقد دفء التواصل الإنساني، وتقتل الإنسان بالوحشة وعذاب الملل والتوجس، واستعان القاص في سبيل ذلك بسمات تشكيلية وصور تتماس مع النبض الشعري الذاتي الجارف بالحسرة والتوجع، وعبر مجموعة من التيمات تدور حول الصلة بالأجداد، وفقدان عذوبة الحكي والتواصل. 
ولأن قاصنا من الصعيد فهو شغوف بتراثه وحكاياته ومواله الشعبي، فنجد مفردة "الحكي" شائعة في عتبات القصص وعبر متنها على سواء، كمعادل للدفء الإنساني، وعذوبة المشاعر العاصمة من قاصمة الغربة، وتوحش الإغتراب، هذا على إجمال، ونشير لقضية شكلية أخرى باعتبارها شاهدا جديدا علي قولنا، هى قضية تتصل "بالإهداء" حيث يدل دلالة واضحة على جانب مهم في المجموعة كملمح الإغتراب كما أشرنا، فالإهداء للأهل الأعزاء في الصعيد الجواني: "لعلهم يغفروا لى غربتي عنهم، بحثا عن السراب" (ص 9 المجموعة)، ويبدو الألم ساحقا بكون هذه الغربة بدون مقابل أو بلا ثمن، فهو إذن أمر عبثي لم يثمر سوى الشقاء، الذي تحمل القصص ملامحه الشرسة والمميتة، سواء في الأجساد أو الوجوه النحاسية، او الأيدي المعروقة، أو تضاريس الجغرافيا النابضة بالقسوة كالجبال والحوائط الموحشة. 
دلالة المجموعة الكلية الإطار والعتبة الأولي تحمل قول إنه "شخص .. كان هنا"، عنوانا يعطي دلالة تكتمل مع قصة الإفتتاح المستقلة "ليلة أمس" فهي قصة تدور عن الماضي أي عن مرور الزمن. كان هنا ثم رحل أيضا، بمعني أن الإنسان والزمان اغتربا معا، فهي غربة موحشة مركبة تنصب الفخاخ للقلب المغترب "الذي نسجته الجروح" كما أشار القاص في تناصه الصريح مع نص شعري لأمير شعراء الرفض "أمل دنقل" في افتتاح مجموعته القصصية الداخلية "فخاخ".  

Literary criticism
السرد القصير جدا

ومن ملامح الغربة هذا التقطيع، فخمس قصص ذات مقاطع، والمجموعة ذاتها مركبة بين مجموعتين قصصيتين داخليتين، لكل مجموعة منهما عنوان جامع لها، مما جعلنا أمام شكل جديد يمكن أن نسميه المجموعة الإطار علي وزن القصة الإطار، والتي استخدمها القاص أيضا في بعض القصص، أي الحكاية من داخل الحكاية في الأسلوب المشهود العروبى بألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، مع شغف القاص بحكايات الجد والجدة كلون من توريث الأصالة وإلتماس الحكمة العاصمة من مآسي الحياة. 
المجموعة الإطار "شخص .. كان هنا" مشكّلة من مجموعتين داخليتين بينهما قصص بمثابة فواصل، عبارة عن قصة الإفتتاح "ليلة أمس"، ثم مجموعة قصصية جزئية داخلية بالعنوان العام "شخص .. كان هنا"، ثم فاصلة عبارة عن قصة "محكيتان عن الجدة"، ثم المجموعة القصصية الداخلية الأخيرة "الفخاخ"، شاهدنا على قولنا إن بعض الحكائين يقومون باختيار - وهذا هو الأغلب - عنوان القصة التي تمثل لديهم أعظم نضج فني، أو قيمة موضوعية تستحوذ عليهم، أي لأنها تخدم هدفهم الرئيس من موضوعات القصة لديهم كى يطلقوه على المجموعة بأسرها، فمجموعة "شخص  .. كان هنا" انتقت عنوان إحدى القصص في مجموعة القصص الداخلية، ومجموعة "الفخاخ" انتقت عنوان القصة في مجموعة القصص داخل المجموعة الإطار، فلم يصبح لعنوان ما مركزية أو استحواذ شامل على القاص، بل تعبير عن "نسق المجموعة القصصية". 
والقاص وقف داعما لمتن القصص وغربتها المستعذبة، لذلك كانت قراءة المجموعة متتابعة بهذا الترتيب المقصود مؤدية أكثر لفهم مرامي المجموعة القصصية، وما أرادت من رسم تفاصيل مشهدها القصصي الكلي.  
القصص الفاصلة (ليلة أمس/ محكيتان عن الجدة)، تمثل تقنية استخدمها القاص في متن قصته "ليلة أمس" بين نسيج السرد المتنامي، يقول: "في كل مرة، كان الحلم يراوده، يحاول فور طلوع النهار، استرجاع تفاصيل أحداثه وتضاريس وقائعه" (ص 13، وص 14 المجموعة)، كانت الفواصل في إطارها الكلي والجزئي لحمة نسيج قصص متساندة تعزف مقطوعة حزينة واحدة. 
ومن مظاهر التحديث النحو إلى منهج "السرد القصير جدا" أو ما عرف لدى البعض بقصة الدقيقة الواحدة، فدارت أربع قصص بين ستة أسطر وأحد عشر سطرا، بما تحمله من إيجاز وتكثيف يؤكد خصيصة أصيلة في القصص من خصائص الشاعرية المرهفة. 
بقي أن نشير لمعني موضوعي عبر ثيمات متكررة تحمل معاني شعاع الغروب، ونضوب الإشراق، وضوء الفجر في غبش واهن من الأمل، وحركة السفر على الأسفلت والطرقات، والمدن الجديدة الموحشة، والقرى القابعة في أحضان الجبل بما شكل ملمحا تشكيليا عبر أفق المجموعة، أيضا خلق لون من التوازي وجعل الأمثولة ظاهرة، وتقديم أيقونة للمعني كما في العصفور ذي الجناح الكسير، موازيا للمغترب شخصية الحدث القصصي في مدينته موطن غربته اللاهبة في قصة "عربة تجمع المتروكات"، وكما قمائن الطوب الأحمر رمز تجريف الأرض الخصبة، كما جري تجريف المشاعر الدافئة بالحكي والحب في قصة "حلب"، كما كان "الهجرس" أيقونة الغربة، ونموذج المهاجر الذي يحدوه أمل العودة كــ "أنين الساقية التي صنعها، التي ما زالت تدور وترفع الماء الشحيح، وتسقي بضع نخلات غرسها في صباه، ما زالوا يقامون الريح، ورمل الصحراء" (ص 46 المجموعة)، لتبقي تلك العبارة الأثيرة والمشبعة بروح القصص وعذوبتها في آن.