شرخ في جدار الطائفية العربية

ينذر فك حلقة في الدائرة الجهنمية للطائفية المخيفة بكسر حلقات أخرى.

كشفت مجموعة من التطورات السياسية، أنه يمكن كسر أو شرخ واحدة من المحرمات التي تسببت في معاناة المنطقة العربية، وتمترست خلفها قوى مختلفة لتحقيق مكاسب متعددة، حيث مد عدد منها بصره إلى الخارج على أسس طائفية، بما جعل تسوية أي مشكلة أو فك عقدة فيها مرهونا بشبكة دقيقة لها مصالح تستعصي أحيانا على الفهم والحل.

ألقت أحداث لبنان حجرا كبيرا في المياه الراكدة منذ سنوات، وأكدت أن الوطن للجميع والدين لله والطائفية تبقى محصورة في أصحابها من الغلاة والمستفيدين من بقائها، ويصعب استمرار الحياة وسط موج هادر لجماهير لفظت وسئمت صيغة حكم تقوم على تقسيم المغانم والمناطق، وتضع مصير البلاد حكرا على جهات حولتها إلى رقم في حسابات شائكة، ويتم توظيفه ضمن لعبة إقليمية متشابكة، لا أحد يعرف بداياتها أو نهاياتها.

تكاتفت أحداث لبنان مع ما جرى في العراق قبله بأيام من ملامح انتفاضة شعبية، ونبذ لمعادلة بغيضة وضعت غالبية الأوراق في يد إيران. وأرادت الجماهير منها وقف هيمنة مجموعة طائفية ضيقة على السلطة والثروة. وربما لم ينجح الحراك العراقي في خلخلة هامش من التوازنات، لكنه أرسل إشارة قوية حول ارتفاع مستوى الغضب من الطريقة التي تدار بها الأمور، من جانب قوى سياسية لم تتردد لحظة في فرض قبضتها على البشر والحجر.

إذا أردنا مد الخيط على استقامته سنجد أن السودان أطلق مبكرا صرخة مدوية ضد العرقية والمناطقية، مع أول شرارة للثورة التي عصفت بالرئيس عمر البشير ونظامه الذي اعتمد على قاعدة إسلامية مؤدلجة. ومن أهم دروس الحراك السوداني محاولة تذويب الفجوة بين المركز والأطراف، والسعي نحو تحقيق السلام الشامل كأولوية ومن دون محاصصة طائفية.

أثبتت مفاوضات جوبا بين السلطة الانتقالية في السودان والجبهة الثورية، كممثلة للحركات السياسية والمسلحة في الأقاليم التي شهدت صراعات متعددة، أن التفاهمات تنطلق من روافع وطنية بعيدة تماما عن العرق والدين، ما يجعل فرص تنفيذ الإعلان السياسي كبيرة، بعد أن جرى التوقيع عليه بين الطرفين الاثنين الماضي، وينتظر أن تستكمل الحوارات قريبا لإنزال بنوده على أرض الواقع قبل انتهاء مهلة الستة أشهر الأولى من عمر المرحلة الانتقالية.

تتضافر التطورات الحاصلة في الدول الثلاث، مع بدايات تغيير في توازنات الأزمة السورية، بما يؤكد الالتفاف حول الدولة ككيان وطني جامع وليس كنظام سياسي، ويشير إلى التخلي تدريجيا عن فكرة الطائفية التي كبدت المنطقة العربية خسائر كبيرة، ووضعت مستقبل الأوطان في يد شريحة محدودة.

وقد يأتي الحديث تحييد الطائفية طواعية، كما هو حاصل في العراق ولبنان والسودان، أو يصبح عنوة وقسريا، كما هو حال الأكراد وغالبية قوى المعارضة في سوريا، فقد أثبتت الأيام أنه مهما كانت الانحيازات على أسس طائفية فغلاف الدولة الوطنية هو الغطاء الواقي في النهاية، والملاذ الذي يمكن الاحتماء به عندما تضيق السبل، وتتداخل الروابط المحلية والخارجية وتفضي إلى نتيجة سلبية، تنعكس تداعياتها على مستقبل الوطن.

تبدو المنطقة العربية مرشحة لموجة جديدة من التحولات، وتتجه إلى هدم الكثير من الأصنام السياسية التي رتب أصحابها توجهاتهم ورسموا خططهم ليستمروا طويلا. وتسببت تصوراتهم وممارساتهم في إيجاد أوضاع مختلة صمدت لسنوات أمام من حاولوا اقتلاعها عنوة، لكن جاء الوقت الذي بدأت فيه المياه تتحرك من تحت أقدامهم، ويخشون فيه مواجهة جماهير تنتشر في الشوارع والميادين ولا تهاب تهديدات حزب لديه آلة عسكرية جبارة، أو حشد شعبي يملك من القوة المفرطة ما يمكنه من البطش بكل من يتصدى له.

يستغرق إحداث تبديل في المكونات الطائفية التي تحكم لبنان أو غيره المزيد من الوقت، كي تتبلور رؤية سياسية تستطيع التغيير الحقيقي مع مرور الزمن، لأن أصحابها لم يعرفوا طعما للحياة بدونها، وكرسوا وقتهم وجهدهم وأدواتهم لتثبيت جذورها في الأرض التي جرى حرثها وتمهيدها واحتفوا بها.

ورأوا فيها نبتة شيطانية في بيئة أبدت استعدادا كبيرا للقبول بها، وتعاملت معها على أنها جزء مهم في التركيبة السياسية التي فطرت عليها، وباتت مرادفا لمعاني عديدة، وفرضت طقوسها على قوى خارجية لم تتردد في التعاطي معها حتى تحولت إلى عبء مادي ومعنوي، واصطحبت معها جملة من المشكلات وقعت كالصاعقة على كاهل الموطنين.

بدأ البعض يعلنون بوضوح بغضهم من الوجه القبيح للطائفية، ويدركون أن المشوار ما زال طويلا، لكن على علم أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة في الاتجاه الصحيح والخط المستقيم. وهذه الخطوة تتمثل في بروز خطاب يلعن الطائفية وما أدت إليه من أزمات، أثرت على حياة شريحة كبيرة من الناس ترفض التجاوب مع أي مسكنات تعيد الأوضاع إلى عهدها السابق.

انطلق قطار محاولة انقاذ الوطن في لبنان، ويعلم كل من ركبوا فيه أو عزموا على ذلك أن الأحزاب الطائفية لن تصمت عن ما يسببه من اهتزاز يهدد وجودها، وقادتها الذين عرفوا طعم السياسة من هذه البوابة، وتخطيها بحاجة إلى طبقة جديدة واعية قد تفتقر الساحة اللبنانية لها، غير أن تكوينها لن يكون صعبا الفترة المقبلة.

وتكمن الصعوبة في القدرة على تخفيف وطأة العقبات التي وضعتها قوى تقليدية أجادت التكيف مع التحديات، ومواجهتها بالحديد والنار. الأمر الذي يتطلب حكمة وحنكة ممن ينشدون الإنقلاب السياسي عليها، قبل فوات الأوان.

ينذر فك حلقة في الدائرة الجهنمية للطائفية المخيفة بكسر حلقات أخرى، ويمنح الرافضين لها شجاعة لمواصلة الطريق الذي يدركون أن عبوره لن يكون مفروشا بالورود، ويحتاج إلى تكاتف الجهود وتحديد الأولويات، لأن المنطقة لن تتحمل انفجارا جديدا في لبنان المعروف أنه ترمومتر تقاس به نسبة الغليان في منطقة الشرق الأوسط، ومركز تتقاطع عنده الكثير من الأجندات الإقليمية والدولية.