شعارات الحرية الإعلامية، أقنعة لتزييف الحقائق

حرية الصحافة تُعد ركيزة أساسية في الدساتير العالمية، إلا أن الواقع يكشف عن تناقض صارخ بين النصوص والممارسات، حيث تُستخدم القوانين لتقييد الصحفيين المستقلين وتزييف الحقائق لصالح السلطة.

الرباط - تعد حرية الصحافة من أبرز المبادئ التي تتبناها الدساتير والقوانين في معظم دول العالم، باعتبارها ركيزة أساسية لضمان حرية التعبير وحق المواطن والصحفي على وجه الخصوص في إبداء رأيه ونقل الحقائق.

ومع ذلك، يكشف الواقع العملي عن تناقض صارخ بين هذه المبادئ المعلنة والممارسات الفعلية، إذ تتعرض الصحافة الحرة للقمع، ويتعرض الصحفيون للقتل والسجن والتضييق. حينها ينكشف الغطاء، وتتحول بعض الهيئات الصحفية والنقابية المدعومة حكوميًا أو من قبل شركات خاصة إلى أدوات لتزييف الحقائق وخدمة أجندات معينة، مما يجعل من حرية الصحافة والنصوص القانونية مجرد شعارات فارغة تتحايل على القانون الدولي.

وتشير التقارير الدولية إلى أن الصحفيين يواجهون مخاطر جسيمة في أنحاء العالم. ففي عام 2024 وحده، سجلت منظمات حقوقية مثل "مراسلون بلا حدود" مقتل العشرات من الصحفيين أثناء أداء عملهم، خاصة في مناطق النزاع مثل غزة، أوكرانيا، والسودان. وفي فلسطين وحدها، قُتل أكثر من 100 صحفي منذ بدء التصعيد الأخير، وفقًا لإحصاءات نقابة الصحفيين الفلسطينيين، وغالبًا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية التي تحمي الصحفيين كمدنيين. وفي المكسيك، التي تُعد من أخطر الدول على الصحفيين خارج مناطق الحرب، يُقتل سنويًا عشرات الصحفيين على يد عصابات المخدرات أو بتواطؤ مع السلطات.

ويُعتبر السجن في الدول العربية مثل مصر، المغرب، الجزائر، وتونس أداة أخرى لتكميم الأفواه، بينما في تركيا، على سبيل المثال، يقبع العشرات من الصحفيين في السجون بتهم فضفاضة مثل نشر "خطاب الكراهية" أو "إهانة مؤسسة دستورية أو موظف دولة"، رغم أن الدستور التركي يكفل حرية التعبير. وفي الصين تُفرض رقابة صارمة على وسائل الإعلام، ويُسجن الصحفيون الذين يحاولون كشف الفساد أو انتقاد الحزب الحاكم. هذه الأمثلة تُظهر كيف تُستخدم القوانين الوضعية كغطاء لقمع الأقلام الحرة، بينما تُروّج الحكومات لالتزامها بحرية الصحافة على الورق فقط، في ظل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي لا تتعدى كونها مجرد غطاء شكلي.

وتتحول الهيئات الصحفية والنقابات المدعومة من الحكومات أو الشركات الكبرى في كثير من الدول العربية إلى أدوات لخدمة مصالح السلطة بدلاً من الدفاع عن حقوق الصحفيين، وهذه التحالفات تُنتج ما يُمكن وصفه بـ"أبواق الأسياد وملمّعي الأحدية"، خاصة عندما تُوزع الأموال والامتيازات على أقلام تابعة تُزيف الحقائق وتُروج لروايات السلطة، بينما يُهمل الصحفيون المستقلون أو يُعاقبون إذا حادوا عن الخط المرسوم. ففي بعض الدول العربية، تُمنح بطاقات الصحافة المهنية لأشخاص محددين يخدمون أجندات معينة، بينما يُحرم منها صحفيون مستقلون، رغم أن هذه البطاقات تُقدم كوسيلة لضمان حقوق الصحفيين والتأمين الاجتماعي حسب الدستور. لكن الواقع ليس حماية الصحفي، وإنما حماية فئة متحكمة في صنع القوانين من الأقلام الحرة التي تكشف فسادها. وفي الوقت نفسه، تشغّل هذه الهيئات القانونية أبواقًا إعلامية بدون بطاقات مهنية أو ضمانات اجتماعية، وهو واقع العديد من المؤسسات الإعلامية التي تشغل الشباب بصيغ عمل مضللة، ما يكشف التناقض والزيف في خطابها المطالب بالحقوق والواجبات باسم الوطن.

وتناول فلاسفة الإعلام مسألة الحرية والسلطة في سياق الصحافة المزيفة، فتحدث يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني، عن المجال العام كفضاء يُفترض أن يكون مفتوحًا للنقاش الحر، لكنه أشار إلى أن هذا المجال يُشوه عندما تتدخل السلطة أو المصالح الاقتصادية للسيطرة على الخطاب الإعلامي. وهنا يُمكن القول إن تحالفات الهيئات الصحفية مع الحكومات تُحوّل المجال العام إلى ساحة للتضليل والمكر والخداع تحت شعار خدمة الشعب، دون نقاش حقيقي مع الصحافة الحرة التي تُزج في السجون.

واعتبر نعوم تشومسكي أن وسائل الإعلام في الأنظمة الرأسمالية أو السلطوية تُدار عبر "صناعة الموافقة"، أي كأداة للسيطرة على الرأي العام، وهو مفهوم ينطبق على الدعم الحكومي للهيئات الصحفية، الذي يُنتج أقلامًا تابعة تُسوّق لروايات السلطة بدلًا من كشف الحقيقة للشعب. فالشعوب هي القوة والسلطة، ومن يصوت في صناديق الاقتراع هو صاحب القرار وصاحب الرأي الحقيقي.

وفي بعض الدول العربية، تم تقنين بطاقات الصحافة وربطها بدخل شهري منصوص عليه وضمان اجتماعي، مع العديد من القوانين الوضعية التي تخالف الدستور أساسًا. الهدف الحقيقي منها ليس حماية الصحفيين كما يُدعى، بل ضبطهم والسيطرة على الإعلام. ففي تونس، بعد الثورة، واجه الصحفيون المستقلون صعوبات في الحصول على البطاقة المهنية إذا لم ينتموا إلى هيئات معترف بها من السلطة، وفي المغرب تُستخدم هذه البطاقة كوسيلة لفلترة الصحفيين الأحرار ومنحها لأقلام تابعة، بينما تُترك أبواق إعلامية تعمل دون أي ضوابط قانونية أو اجتماعية تفضح الشعوب الفقيرة وتغطي فساد الأغنياء.

وهذا الواقع يكشف أن الهدف ليس تعزيز حرية الصحافة، وإنما تقييدها تحت غطاء القانون، وبكل وقاحة تستمر هذه الهيئات في رفع شعارات الحقوق، في تناقض واضح مع ممارساتها، وهي في الحقيقة تسجل على نفسها أهدافًا، والزمن سيحاسبها.

وتبرز ظاهرة الشعارات المضللة التي ترفعها أبواق الدعم الحكومي كوسيلة لخداع الشعوب وإيهامها بالاستقلالية والحرية، من خلال عبارات مثل "صوت الشعب"، "صوت المواطن"، "الحرية"، "الرأي الآخر"، و"الحدث الحر"، التي تُستخدم كأقنعة تُخفي تبعية هذه الأبواق للسلطة أو المصالح الضيقة.

لكن فجوة الثقة بين الشعوب وهذه الأبواق الإعلامية تتسع بفضل التكنولوجيا الحديثة، التي تُبرز مدى السخرية في استخدام مصطلحات الحرية لتقييد الحرية ذاتها. اليوم لم يعد الشعب يثق بهذه الأبواق الإعلامية المزيفة التي تُنتجها التحالفات النقابية والجمعوية. ومع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان المواطن العادي الوصول إلى الحقيقة بنفسه، متجاوزًا الروايات الرسمية.

هذا التحول يكشف أن محاولات تقنين الصحافة وتكميم الأفواه بالقوانين لن توقف الحقيقة عن الظهور، فالشعوب اليوم أكثر وعيًا بأن الحق لا يكمن في الأبواق المدعومة، وإنما في الأصوات الحرة التي تتحدى الزيف، مهما كانت الفجوة واسعة أو التحالفات ماكرة.

فأين هي حرية التعبير وحرية الصحافة التي نصت عليها الدساتير، ما دام الصحفي يُحاكم أمام المحاكم ويُجبر على دفع الغرامات؟ وإذا كانت هناك نقابات وجمعيات حقوقية تحمي الصحافة، فلماذا يظل المئات من الصحفيين بلا بطاقات مهنية، بلا ضمان اجتماعي، وبلا ترسيم؟ هل وُضعت القوانين لحماية الصحفي أم لحماية الهيئات الصحفية من الأقلام الحرة؟ ولماذا توجد صحف تُسمي نفسها مستقلة بينما هي في الحقيقة تتحالف مع النقابات والهيئات الإعلامية؟

لا يمكن أن يكون هناك إعلام حر ومستقل يتلقى دعمًا من الأحزاب السياسية أو من الحكومات، ولا توجد صحافة حرة تتحالف مع مؤسسات الدولة. فأينما أدرك الشعب تحالف الصحف والنقابات والجمعيات، فليعلم أن من يتحدث بالحق إما في السجن، أو مقتول، أو منفي، فالحق لا يكون مع الجماعة، وإنما مع الأفراد الذين يدافعون عنه بعيدًا عن الإعلام الرسمي الذي يُحاصر بالقوة.