شغف الصوفي كمشغل دلالي في ديوان "حبّةُ البَرَدِ"

التجربة الشعرية لعلوان مهدي الجيلاني انبنت في معظمها على التصوف كلغة إشارية رامزة قادرة على التحرك بمحمولات إبداعية مائزة.
في عناوين القصائد تتناثر دلائل إشارية تكشف عن مواضعات التجربة
تجربة الحب المشتعلة وطغيان المواجيد كانا يلجئان الشاعر مرات إلى الغناء

انبنت التجربة الشعرية للشاعر اليمني علوان مهدي الجيلاني في معظمها على التصوف كلغة إشارية رامزة قادرة على التحرك بمحمولات إبداعية مائزة، ومنذ أن صدر ديوانه الأ ول "الوردة تفتح سرتها" سنة 1998، مروراً بدواوينه اللاحقة "راتب الألفة" 1999، "إشراقات الولد الناسي" 1999، "غناء في مقام البعد" 2000، "كتاب الجنة" 2004، "يد في الفراغ" 2016، "أحمد نشم أزمنة الفارس ومآثره" 2019، وحتى ديوانه الثامن "حبّة البَرَد" 2020، ظلت اللغة الصوفية لزيمة هذه التجربة وأهم  علاماتها، المتغير الوحيد هو أنها في الدواوين الثلاثة الأخيرة صارت أكثر تخفياً، تتلمسها الروح ولا تراها العين إلا إذا كانت عينا خبيرة عارفة.
في الدواوين الخمسة الأولى تنهل قصيدة الجيلاني من الجو الروحاني العميق، مفرداتها وفضاءاتها ومعانيها، غير أنها في توجهاتها وإيماءاتها ذات معطى حسي حميم يراوح بين معاناة التجربة الإبداعية ومكابدة التغلغل في تفاصيل الأنثى.
تتناثر في عناوين القصائد دلائل إشارية تكشف عن مواضعات التجربة، مقامات شمس الشموس، ياذا الوجد، الوردة تفتح سرتها، معراج النشوة، وتلازم التجربة الصوفية مع فيضها الدلالي الخاص، شديدة الوضوح هنا، فالمقام، والوجد والمعراج، تفي بنفسها إيحاء لسيما الغناء، فالأوصاف طريق إلى الحلول بتعبير الصوفية، وهي تلك التراكيب الأنثوية تضعنا بموازاة التجربة التي تشخصها الأنثى التي تحل محل الجمال وترمز بذاتها إليه، شمس – وردة – نشوة - أسماء تتبادل الدلالة فيها المسميات الحقيقية للأنثى، مع المدلول القاموسي للشمس والوردة والنشوة. إن العلاقة هنا هي مقام الفيض تزهدنا في العالم الأرضي وترتقي بنا في مدارج تفضي إلى المعراج والنشوة بحضرة امرأة كان لها أن تتنفس كائناً في القصيدة، وتخضوضر وتتنامى.
ديوان "حبّةُ البَرَد" ديوان كبير الحجم تطغى عليه قصيدة النثر، لكن تجربة الحب المشتعلة وطغيان المواجيد كانا يلجئان الشاعر مرات إلى الغناء، فيذيل النص النثري بمقطع عمودي، والملاحظ أنه بمقدار ما يتخفى الملفوظ الصوفي ودلالاته في النص النثري فإنه يعلن عن نفسه بقوة ووضوح لا مزيد عليه في الذيل العمودي، ولعل  نص "المجنون" من أهم النصوص تعبيراً عن هذا المنحى، عنوان النص يحيل تلقائياً إلى مجانين الحب في التراث العربي وعلى رأسهم مجنون ليلى، قيس بن الملوح، لكن ثنايا النص تحيلنا إلى مجنون صوفي "بهلول":
كُوني كلمةَ السِّرِ إذنْ 
دُوري عليّ بكؤوسك 
دَوِّرِيني كيْ تظهرَ شمسُكِ فيَّ
المجنونُ لم يقلْ قصيدَته بعد
هنا إشارة واضحة إلى عبارة الشيخ محيي الدين بن عربي الشهيرة في كتاب "الإسراء إلى معارج الإسراء": أنت غيمة على شمسك، ثم يمضي بنا النص لتتكشف أحوال المجنون، وتقلباته ومتاعبه ومقاماته ومنازلاته التي يجب أن يمر بها كي يـتأكد أنه صار مجنونا بحق، المجنون يجب أن يكون شيئاً مختلفاً، وحين يصير شيئاً مختلفا يتعامل مع النص بوصفه جوهر الحياة، فالنص هو تجربة الحب وتجربة الوجود كلها، النص أنثى واضحة  ليست جسداً ملتبساً، أنثى روح، ذات وشائج تتقاطع في رحابها ذات الشاعر، وذات الفن الشعري. 
سوف أنهي هذه الوقفة بعرض نص المجنون كاملاً المتن النثري والذيل العمودي:
لتَكُوني النّهرَ الذي يفيضُ في قلبي 
لأكنْ أنتِ حتّى تكوني أنا 
كمَا تلتقي الأرضُ والماءُ فتظهرُ النبتةُ الخضراء
حريقكِ يصهرُ ماضيّ كُلّه 
تَتحوّلُ رُوحي إلى زهرةٍ بيضاءَ 
زهرةٍ تُشبِهُ ابتسامتكِ تماماً
كُوني كلمةَ السِّرِ إذنْ 
دُوري عليّ بكؤوسك 
دَوِّرِيني كيْ تظهرَ شمسُكِ فيَّ
المجنونُ لم يقلْ قصيدَته بعد 
ما زالَ نيّئاً وهِمَّتُه فاترة 
هل جرَّبَ أن يتعرَّى في الطريق
هل نامَ على الأرصفةِ ونبَحتْهُ الكلابُ 
هل ماتَ وحِيداً في الصَّحراءِ 
هل أنكرَ وجْهَهُ في المرآةِ 
هل فاحتْ روائحُ عذاباتهِ في حناجرِ المُغَنّينَ
المجنونُ لا يزالُ يسمعُ الأغاني لكنَّه لا يكتبُها 
يسكرُ في الحانةِ ولا يعرفُ سُكْرَ الرّوح 
يبحثُ عنكِ في شاشةِ الهاتفِ أكثرَ مِمّا يبحثُ في الخيال
المجنونُ ما يزالُ مُبتهجاً بنفسِه 
يتذكّرُ ماضيهِ كثيراً 
كتبَهَ وأصدقاءَهُ ونساءَهُ العابراتِ
حينَ يَنسى سيقولُ قصِيدتَهُ 
حينَ يَنسى سيسيلُ ذهبُهُ على شفتيكِ 
سينفرطُ قلبُه بينَ يديكِ كمَا تنفرطُ الرُّمانةُ النّاضِجةُ 
سيصيرُ ضوءاً يدخلُ عينيكِ ولا يخرجُ مِنهُما
يبحثُ المجنونُ كلّ ليلةٍ 
لكنّهُ لم يجدِ المفتاحَ بعد
شَغَفُ المُعنَّى فاضَ بالمَعنىَ
هي ذاتُه ولذاتِه غَنَّى
أخَذَتْهُ منهُ فعادَ مُنكَسِراً
وشَفَتْهُ مِنهُ فَصَارَ مُفْتَىَّا
عَينَاهُ تَلحَظُها فتَسرِقُهُ من
وقْتهِ لحَظُاتُهاَ الوسْنَى
دارتْ فدارَ على حِكَايتِها
يُهدِي لهَا من سُكرهِ دَنّا
الغادةُ الولهَى متى شَرعتْ
شُرُفَاتِهَا في نَبْضِهِ المُضْنَى
تَلقَاهُ مثلَ العيدِ مُحتفلاً
يَزهو القُرَيشِي فيهِ والحِنَّا
يا غيثُ أدركْنِي فواردُهُم
قتلَ الدليلَ وبدّلَ المعْنى
وأثَابَنِي وصْفاً بلا صِفةٍ
وأجَازَنِي شَجَراً بِلا مَجْنَى
لمْ يُصغِ لي إلا مُخَتالةً 
وأنا جَعلتُ لهُ دَمي أذْنَا
وجَعلتُهُ شأني ومُطّلبي
لكِنّهُ عن شأنيَ اسْتَغْنىَ
يا غيثُ ضاعَ الكيفُ عندهُمو
وبقيتُ لا قاتاً ولا بنّا