"حبة البرد" الشعر في صفائه التام

ديوان الشاعر اليمني علوان الجيلاني، يعد واحدا من أكثر تجارب الشعر العربي المعاصر فرادة.
الوجه يتحول إلى لوحة عبقرية تتعدد ألوانها وتتجاور الكنايات بها ولها
تجربة تجعل القارىء يشعر بالشراكة في ما حدث

يإمكاننا اعتبار ديوان "حبّة البَرَد" للشاعر اليمني علوان الجيلاني، واحدة من أكثر تجارب الشعر العربي المعاصر فرادة، موضوع التجربة "الحب"، ومدركاتها الحسية والمعنوية، الحيل الفنية التي مارسها الشاعر وتحولت إلى أيقونات لما يمكن أن يوصلنا إليه الشغف بالمحبوب، حيث يتحول الوجه إلى لوحة عبقرية تتعدد ألوانها وتتجاور الكنايات بها ولها، إنها تجربة تجعل القارىء يشعر بالشراكة في ما حدث، ثمة أنثى جميلة، وشاعر سكر بجمالها حتى الثمالة وراح يتغنى بمفاتن تلك الأنثى، بهذا القدر المجنون من الشغف واللهفة اليومية.
لا يَشْغَلُنِيْ شَيءٌ كَمَا يَشغلُني وجْهُك
وجهكِ هذا صارَ عجينتي الخاصّة
سأُحَوَلُهُ إلى شجرةٍ في الصّحراء
يتفيّأُ ظِلالَها الرّعُاةُ والمُنقَطِعون
سأُزرعُهُ نَجِيلةً في الخريفِ 
أستمتعُ بملاطفةِ النّدى لها كلّ صباح
سأ صنعُ منه زورقاً صغيراً
يتّسعُ لعاشقينِ في رحلةٍ نهرية
سأجعلُه فضاءاتٍ لمخيّلتي
سماواتٍ زرقاءَ
بَرَداً يسّاقط في فمي طوالَ الوقتِ
ملائكةً بوجوهٍ كوجوهِ الأطفالِ
سأرسمه أقماراً ونجوماً 
غزلاناً ونوارسَ وشقراقات
سأكيّفُ به الهواءَ ..
وأبخّرُ به الأعيادَ 
وأزيّنُ العرائس

كثيرة هي الزوايا التي يتيح هذا الديوان تناوله من خلالها، على سبيل المثال الرمز الصوفي، وثنائية الحب والحرب، والخمر بمعناها الشعري ومعناها الحسي ومعناها الصوفي

سأوزّعُهُ دبادبَ للعشاقِ في عيدِ الحبِ
أساورَ للمخطوباتِ
زغاريدَ للناجحينَ 
حناناً في قلوبِ الأمَّهاتِ
فتوحاتٍ في أكُفّ الفقراءِ
شَواجِبَ على صدورِ الحوازِّ
سأصنعُ منه طياراتٍ ورقيةً تُسْعِدُ الصِّغارَ
سَأدسُّهُ في أفلامِ الأنَميشن
في قصّةٍ لتومْ وجيري على الشاطىء
في وثائقيٍّ يتحدثُ عن الخوارِق
تتراً لمُسَلسَلٍ رومانسيٍّ تُركي
سأجعلُه مخدةً أنامُ عليها آخرَ الليل
مرآةً أتصّفّحُ نفسي فيها 
سجادةً للصلاةِ. 
قلماً أ كتبُ به قصائدي 
زمناً آمناً أهربُ من الحربِ إليه
سيكونُ هو عِطري المفضّل
شَمْعتِي حين تَنطَفئُ الكَهْرباءُ
صَديقي حينَ يتنَكَّرُ ليَ الآخرون
حائِطي على فيس بوك
رَصِيدي في البَنكِ
ملعقةَ العسلٍ التي أتّقي بها التّجَاعِيد
سَلطَنتي في السّاعةِ السليمانية 
حرزي من الأشرارِ 
كتابي الذي لا أملُّ قراءتَه
ذكرياتي التي أتنهدُ لها حين أكونُ وحيداً
تعمدت إيراد هذه المقاطع من نص طويل وجميل ليشاركني القارىء رؤيتي فأنا أعترف أني على كثرة ما قرأت من شعر في حياتي فإني لم أقف على قصيدة تجمع هذا الكم الهائل من مفردات الحياة اليومية العادية جداً (ملعة العسل، الحرز، الرصيد، فيس بوك، طيارة ورقية .. الخ) لتتحول في سياقات النص إلى ذهب يلمع وجمال لا مثيل له.
نحن كما قال الشاعر موسى حوامدة ليلة الاحتفال بتدشين الديوان أمام تجربة قوية وفريدة فعلاً، وبالمناسبة فإن طريقة الشاعر بأناقته وجمال إلقائه وحضور محبيه الكثيف الذين اكتظ بهم مقر حزب التجمع بوسط البلد، كان له أثر كبير على طريقة قراءتي للديوان وإعجابي به، فنحن نحتاج مرات كثيرة إلى أن نتذوق الشعر بالسماع، نحتاج نرى كيف يُلقي الشاعر شعره، فطريقة الإلقاء تخبرنا عن نوع التجربة إن كان الشاعر يعيش داخل تجربته أم لا، هناك الكثير من الشعراء تشعر أنهم يكتبون الشعر بقصدية بمعنى أنه لا يطفر في قلوبهم وأرواحهم حاراً ندياً وشفافاً، كما أن تحلي الشاعر من خلال قوة حضوره بالنجومية يصنع فارقاً، طوال التاريخ الشعري العربي كان الشاعر النجم يحظى بالشهرة أكثر من غيره.
في هذا الديوان تشعر أن الشعر مطر يسقط طوال الوقت، والشاعر يكتب شغفه بالمحبوبة لحظة بلحظة، لا يترك شاردة في علاقتهما دون أن يحولها إلى شعر، من صباح الخير عند استيقاظه من النوم إلى أن يغيب في النوم، التواصل عبر الهاتف يتحول إلى قصائد، رموز السوشيال ميديا من قلوب ووجوه وغيرها تتحول إلى قصائد، كل حركة من حركات الطرف الآخر نفسية أو جسدية تتحول إلى قصائد وذلك ما يعنيه قوله:
حينَ قال الحبُّ كلمتهُ بدأ كلُّ شيءٍ من جديدٍ 
كلُّ لحظَةٍ نلْمِسُها تتحوّلُ إلى ضوءٍ خالدٍ  

Poetry

ديوان "حبة البرد" ديوان كبير الحجم حافل بعشرات النصوص وأيضا الأشكال الشعريه، صحيح أن قصيدة النثر هي الغالبه لكن الشاعر أحيانا يلجأ إلى العمود، ومرات يكتب العامية اليمنية حتى، من هنا يمكن أن نتلمس ميول التوثيق عند الشاعر، فهو بشكل متعمد قرر أن ينشر تجربته الشعرية بتجلياتها كافة، إذ المقصود كما قال لي هو ليس تقديم ديوان شعر للقارىء بفكرة الشعر وشكله نفسها وإنما تقديم حبّة البرد المحبوبة من خلال تنوعات حضورها في التجربة الشعرية، فالنصوص تشبه كما أسلفنا اللوحات الفنية. وهو يقدم كل تفاصيل العلاقة في لحظات الصفاء ولحظات التشوش في القرب وفي البعد، الرضى والخصام.
تلمعينَ كالفجرِ على الجبالِ الخضراءَ
أتأمّلُكِ وقلبي زهرةٌ مغسولةٌ بنبيذٍ لاذعٍ
يأخذُني إليكِ عبيرُ المُغيبِراءِ والوُزّابِ
يأخذني إليكِ شجنٌ قديمٌ يتسلّلُ من عينيكِ 
يُصيبُني بخدَرٍ لا أستطيعُ تفْسِيرهُ
ها أنذا أقفُ كَمُريدٍ جديدٍ 
أنْسى عَاداتي القديمةَ كُلِّهَا 
وأتَمْتمُ بأذكارٍ جديدةٍ 
أسَلّمُ نفسي لمَشيئةٍ قاهرةٍ
كلُّ لحظةٍ أقولُ: 
يا إلهي كيفَ كنتُ عبداً لذلكَ العددَ الكبيرَ من الرَّغباتِ 
أوثانٌ كثيرةٌ طأطأتُ لها رأسِي 
قبلَ أنْ أعرفَ ملاكاً مختلفاً
امرأةَ لا تُشبهُ النِّساءَ 
تُشبِهُ الجوهرَ، والحقِيقةَ، والحبَّ، وتُشْبِهُني حينَ كنتُ 
حبيبَ الله
لكنِّي الآنَ أستيقظُ في عاصفتِكِ 
ما الذي أبقيتهِ لي 
مجرّدُ مجنونٍ لا يرى ولا يسمعُ غيرَكِ
وميزة نصوص "حبّة البرد" أن تقرأ فيها لذة الشعر الصادق، وأنا أول مرة أستعمل هذا التعبير، لكني أستعمله وأنا أعيد الشريط  والشاعر يقرأ شعره بشغف وجمال قلّ أن ترى مثله ، وهو أيضاً يوجه قصائده إلى أنثاه مباشرة في تجربة يندر أن نشهد مثلها، لكنها حدثت، وهنا علي أن أقول إن الشاعر قد يتجاوز مسألة الكتابة إلى تحويل الكتابة إلى طريقة حياة، والديوان الجميل كالمرأة الجميلة يستحق أن يعتنى بكل تفاصيله والجيلاني نجح في هذا نجاحاً كبيراً. 
من جهة أخرى سنلاحظ أنه رغم حضور أماكن أخرى في الديوان، إلا أن الديوان قاهري بامتياز. القاهرة المكان بطل رئيس في الحكاية بمقاهيها ومطاعمها وشوارعها ونيلها ومزاراتها موجودة في أكثر من نص:
كرَجلٍ عاقلٍ وحكيمٍ 
أشربُ حُزْنِي على مَهلٍ 
أتَحَسَّسُ مَلْمَسَ اللّحظَةِ 
تَبدو خَشنةً وباردةً 
الليّلُ كمَا هو 
المُتغيِّرُ هو أنِّي لمْ أنَمْ 
ساعةُ الجِدارِ كمَا هيَ 
المُتَغِّيرُ أنَّ صَدري لا تُزَقْزِقُ فيهِ العَصَافير 
الأغَانِي كمَا هيَ 
لكنَّ صوتَ المُغَنِّي يَفْقِدُ قدرتَهُ على التّشْجِينْ 
سِي جلّ كمَا هُوَ 
لكنّهُ شَجَرةٌ بِلاَ أغْصَانْ
الحانةُ كمَا هيَ 
لكنَّ الخَمْرةَ بِلا مَعنَى 
النِّيلُ كمَا هُوَ 
لكنَّهُ شالٌ أزرقُ حولَ روحيَ المَذْبوحَة 
الأصدقاءُ كمَا هُم 
لكنَّهُم يَتَزَمَّلُونَ السَّوادَ أمَامَ دَمْعتي الكبيرة 
أنتِ كمَا أنتِ 
لكنَّكِ قَطرةُ ندىً تَبَخّرتْ بِسرْعَة 
أنا كمَا أنا 
أروي هذه الحكايةَ بقلبٍ ميّت
كثيرة هي الزوايا التي يتيح هذا الديوان تناوله من خلالها، على سبيل المثال الرمز الصوفي، وثنائية الحب والحرب، والخمر بمعناها الشعري ومعناها الحسي ومعناها الصوفي، وكذلك حضور الاصدقاء، واستحضار النساء لمقارنتهن بالمرأة المحبوبة وغير ذلك كثير كثير، وذلك يجعل هذه القراءة عتبة لقراءات أخرى في هذا الديوان الذي أعتبره ديوان العام بامتياز.