"شكرا حاتم علي" أعظم جملة تُقال في جنازة

كتب السوريون مرثيات توحي بأنهم فقدوا جزءا عزيزا من كيانهم الذي استعادوا وحدته خياليا بعد أن تحول حاتم علي إلى ظاهرة وطنية تجذب إليها القريب والبعيد.
حين توفي المخرج حاتم علي أدرك العرب أنهم فقدوا فنانا عظيما نادرا من نوعه
حاتم علي خدم قضيته عن طريق إخراج أعمال فنية عظيمة كانت محل إكبار السوريين والعرب
لم يفاجئ سلوك الحكومة السورية وهي تستقبل جثمان الراحل المعارضين الذين تمنوا لو أنهم كانوا هناك

بالصدفة تابعت المسلسل المصري "أهو دا اللي كان" لا لشيء إلا لأنه عُرض من قبل "نيتفلكس" فأنا توقفت عن رؤية المسلسلات المصرية منذ أكثر من ربع قرن. وهو تاريخ مغادرتي العراق.

شدني المسلسل لبراعة الاخراج والتصوير بالرغم من بعض الترهل الذي خالطه في الحلقات الأخيرة ورداءة الحوار بعض الأحيان. كان المخرج ماهرا في تحويل المادة المكتوبة إلى صور باهرة.

كما أنه عرف كيف يتنقل بخفة بين زمنين من غير أن يرتكب خطأً يشير إلى ارتباكه أو إلى خلطه بينهما. اما الحكاية فإنها لم تكن معقدة والشخصيات كلها كانت تحت السيطرة.

كل ذلك لاحظته وأحدث في نفسي سرورا من نوع خاص. هناك إذاً مخرجون عرب معاصرون يمكن الرهان عليهم باعتبارهم فنانين كبارا في الحرفة والموهبة والخيال.

غير أن كل ذلك لم يدفعني إلى التعرف إلى أسم المخرج الذي أعجبت بعمله. ذلك اهمال لن أغفره لنفسي بعد أن تبين لي في ما بعد أن السوري حاتم علي هو ذلك المخرج الذي يستحق الثناء.

بعد موته تعرفت عليه. حدث بائس فعلا كنت بطله وضحيته في الوقت نفسه. بالرغم من أن ذلك الاهمال لم يكن بالنسبة لي عادة فأنا أهتم كثيرا بمخرجي الأفلام وأتابع نتاجهم السينمائي غير أن ذلك لا يحدث مع المسلسلات وهو ما لا أملك له تفسيرا.

حين توفي حاتم علي أدركت أننا فقدنا فنانا عظيما نادرا من نوعه.

غير أن ما لفت نظري ذلك الحزن الجماعي الذي خيم على السوريين بسبب شعورهم بالفقدان. كانت تلك مفاجأة لم يتوقعها أحد، حتى حاتم علي نفسه الذي لم يكن يعرف بالتأكيد أنه كان محبوبا إلى هذه الدرجة.

المفاجأة تكمن في ذلك الاجماع على تقاسم الألم واللوعة والشعور بقسوة الحدث بين أطياف مختلفة من السوريين الذين صاروا يقابلون شتات الجغرافيا بشتات العاطفة والفكر والخيال.

السوريون اليوم ليسوا كما كانوا من قبل. لقد قفزوا من صخرة وطنهم إلى هاوية التجاذبات والاختلافات والتناحرات السياسية. صار ما يفرقهم أكبر بكثير مما يجمعهم.

لم يعد الحديث عن معسكرين يعبر عن واقع الحال السوري. ما كنا نقوله بالأمس لم يعد صالحا اليوم ومن كان صديقا وحليفا انتقل إلى جبهة العدو في غمضة عين.

ببساطة لم تعد المعارضة معارضة ولم تعد الموالاة موالاة.

كانت العشر سنوات السابقة قاسية وجارحة ويمكننا أن نقفز على اللغة المتاحة لنكون وفيين إلى وصفها باعتبارها صرخة الفزع الإنساني الأخير. الرمادة التي أطفأت البصر وعصا الأعمى التي لا تسمي الأشياء التي ترتطم بها.

السوريون شعب ممزق وجد فجأة في الغصة ما يجمعه.

لم يكن حاتم علي يملك اهتماما سياسيا خاصا. كان فنانا عميقا في إنسانيته. وإذا ما قلت إنه لم يكن معارضا قد يصدم ذلك القول الكثيرين. كان موقفه الرافض للعنف منسجما مع رؤيته الإنسانية الشاملة ولم يكن يعبر عن انحياز سياسي. فهو لم يكن جزءا من المعارضة كما كان حال فنانين آخرين.

وكما يبدو فإن حاتم علي خدم قضيته عن طريق اخراج أعمال فنية عظيمة كانت محل اكبار السوريين والعرب. ذلك ما فعله ليكون معارضا للبذاءة والتفاهة والانحطاط والابتذال. لقد قاتل وقاوم عن طريق الفن.

تلك سجايا قابلها السوريون بالشكر والعرفان.

لم يفاجئ سلوك الحكومة السورية وهي تستقبل جثمان الراحل بجماهير غفيرة المعارضين الذين تمنوا لو أنهم كانوا هناك. بعد عشر سنوات من التشرذم حدث ما يجمع وما يلم وما يذكر بسوريا الموحدة.

هل كانوا في حاجة إلى رمز إنساني ليتخلصوا من أعباء السياسة التي أدخلتهم في أنفاق الارهاب والعنف والخيانة والريبة والشك والمجون الأخلاقي والتوزع بين الدول؟  

موت حاتم علي كان مناسبة لعودة الوعي.

لقد كتب السوريون مرثيات توحي بأنهم فقدوا جزءا عزيزا من كيانهم الذي استعادوا وحدته خياليا بعد أن تحول حاتم علي إلى ظاهرة وطنية تجذب إليها القريب والبعيد. المقيم والمغترب. الصامت والصارخ في هتافه.

في عزاء واحد كانت سوريا المتعددة كلها حاضرة.

لو كان حاتم علي حاضرا لتأكد من جلال نظريته وعظمتها. الفن أكبر من كل المعادلات. الفن بنقائه وصفاء سريرته وسمو أفكاره ومتعته واستقامة العيش فيه هو المعادل الحقيقي للحياة.

وهب حاتم علي السوريين جوهرة خيالية فكانوا أوفياء في رد الجميل إليه.