شيء ما لا أفهمه

جرب العرب كل شيء ما عدا التطبيع الكامل.
العرب قابعون بين وحشين: اسرائيل والإسلاميين بشقيهم السني والشيعي
الظلم الذي أصاب الفلسطينيين لا يشبهه ظلم في التاريخ لكن الوضع الراهن مؤلم جدا

تصر الشعوب العربية على رفض التطبيع بينما بعض حكامهم يريدون التطبيع. فهل هو خيانة كما تشعر الشعوب العربية أم استراتيجية كما يريد بعض الحكام العرب؟ إن وضع العرب الحالي مؤسف ماديا ومعنويا، ولولا ظهور ايران على الساحة تتبنى القضية الفلسطينية لربما استطاع العرب تحرير فلسطين، دون خوف من انقسامات وحروب أهلية، وهو الأمر الذي يجعل العرب قلقين من مغبة التحرير والحرب الأهلية التي ستعقبه. فهل التطبيع سيء الى هذا الحد؟

إن من يسعى من العرب الى تحسين أوضاعه، يهاجر أو يبحث عن عمل في دول الخليج، بينما إسرائيل بجوارهم ويمكنهم الاستفادة منها والتطبيع معها والعيش فيها من خلال الدراسة والعمل والتصاهر أيضا، فلديها أفضل الجامعات والمصانع ونظامها ديمقراطي وتصون حقوق العمال وهي واقع مفروض علينا بل أن بعض العرب باتوا يريدون بقاء إسرائيل خوفا من ايران وتركيا اللتين لا تخفيان أطماعهما في البلدان العربية، ونحن نعيش حالة التردي والفوضى والجهل الذي يجعل الأخ يقتل أخاه لأنه ليس من طائفته، وبات العرب قابعين بين وحشين: إسرائيل من جانب والإسلاميين بشقيهم السني والشيعي من الجهة الأخرى وطالما أن العرب في حالة عداء معهم، سيظل التردي يتدحرج الى الأسفل دون وجود قاع، وكلما لمع بريق الأمل، تظهر كارثة جديدة حتى بات العرب لا يعرفون الى أين يتجهون.

كيف استطاعت اسرائيل احتلال فلسطين؟ هل جاءت فجأة من غياهب الظلام أم كان الصهاينة مستقرين في فلسطين ويحملون جواز سفرها ويتعاملون بالليرة الفلسطينية؟ في عام 1856، قام السلطان عبد المجيد الأول بإصدار قانون الخط الهمايوني والهدف منه مساواة جميع فئات الشعب في الامبراطورية العثمانية في الحقوق والواجبات وقام ببناء دور العبادة لجميع الأديان في جميع الولايات التابعة للدولة العثمانية، يطبق على كل الملل والأديان غير الإسلامية. وقد جاء هذا الفرمان بضغط من فرنسا وبريطانيا على السلطان مقابل مساعدة السلطان في حربه مع الروس وكانت بنود هذا الفرمان هي:

  • عدم إجبار أي شخص على ترك دينه
  • محو كل الألفاظ المسيئة لأي دين ملة أو طائفة
  • يكون أساس التعيين في وظائف الدولة على أساس الكفاءة فقط بصرف النظر عن الدين
  • إلزام كافة مواطني الدولة بالخدمة العسكرية
  • يكون للأديان الأخرى محاكم خاصة بهم

مكن هذا القانون اليهود من دخول الدولة العثمانية، وتقدر المصادر التاريخية بأن عدد اليهود الذين هاجروا من أوروبا الشرقية إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر أي في ظل الحكم العثماني بنحو 25000 يهودي، وقد شكلت لجنة أوديسا في مدينة يافا في عام 1890 التي تولت إدارة هجرة اليهود إلى فلسطين فيما كانت الدولة العثمانية منشغلة برد الهجمات الأوروبية من الشمال. كما أن الدولة العثمانية تهاونت في مسألة التدخل الإنجليزي والفرنسي في الشؤون الداخلية للدولة بل أنها استجابت لهما في منح الحريات للأديان الأخرى أي المسيحية واليهودية ونظرا لأن العثمانيين أهملوا الدول العربية ولم ينشروا الوعي بينهم ولم يحذروهم من الخطر الصهيوني، فقد تمكنت الجمعيات اليهودية من الهجرة الى فلسطين والعمل بصمت والرضوخ للسلطات وشراء الأراضي والأعمال التجارية حتى أصبحوا قوة اقتصادية ضخمة، وعندما مكنوا أنفسهم من السيطرة لم يبق أمامهم سوى جلب الميليشيات الصهيونية لطرد الفلسطينيين بالقوة والاستيلاء على أراضيهم.

في المقابل، فإن العرب ليسوا أمة حرب وقتال، بل أنهم مسالمون والإسلام يدعو الى احترام الأديان الأخرى، فما المانع أن تسود المحبة والوئام وفتح الأبواب للسفر وضمان حرية الحركة، والاستفادة من ديمقراطية إسرائيل واحترامها للحريات الفردية والاندماج في المجتمع الإسرائيلي؟ بل أن الحصول على جواز إسرائيلي أسهل من الحصول على الجنسيات العربية وهناك إسرائيليون من عرب الأرض المحتلة في عام 1948، وهم يعيشون في رغد ومستوى معيشي مرتفع، ولديهم فرص كثيرة للعمل والتملك والدراسة. والعرب اليوم يحلمون بالهجرة الى دول بعيدة، فلماذا لا يهاجرون إلى إسرائيل وهي أقرب إليهم؟ لقد أصبح العرب يمثلون جالية كبرى في الدول الغربية، فلا بأس من الهجرة الى إسرائيل وهم الأقرب الى العرب من حيث الثقافة والعرق والتاريخ واللغة.

سيقول البعض أن هذا هذيان ولكن التاريخ يقول عكس ذلك، فقد جاء الصهاينة الى فلسطين بعد آلاف السنين من الشتات ولم ينسوا تاريخهم القصير في فلسطين منذ آلاف السنين، وعادوا إليها وهي تحت الحكم العثماني كأشخاص مسالمين وعاشوا بين الفلسطينيين على قدم المساواة، وكان خطأهم أنهم مهدوا الطريق للجماعات الصهيونية المسلحة، ولم تكن نواياهم طيبة، ولكن العرب نواياهم طيبة ويريدون التطبيع لما في ذلك من فوائد علمية واقتصادية وثقافية واجتماعية.

ربما يكون هذا هو الحل الأمثل في الظروف الراهنة حيث تأكل الحروب الأهلية موارد العرب وبات الحال مؤسفا من جميع الجوانب، ولو افترضنا أن العرب حرروا فلسطين، فما هو المتوقع منهم؟ لا شك أنهم سيأكلون بعضهم البعض دفاعا عن الله والرسول! بينما بديل ذلك هو التطبيع مع إسرائيل والاستفادة من اقتصادها وتقدمها بنفس طريقة هجرة العرب الى الدول المتقدمة، حيث تمكنوا من العيش المريح والاستفادة على جميع المستويات بما في ذلك الدخول الى مراكز صنع القرار والتأثير في سياساتها، ومد جسور التفاهم والتعاون والفائدة المتبادلة.

لا شك أن الحاجز النفسي كبير جدا، لأن الظلم الذي أصاب الفلسطينيين لا يشبهه ظلم في التاريخ، ومع ذلك، فإن الوضع الراهن مؤلم جدا، وهو يسوء يوما بعد يوم، وقد جرب العرب كل شيء ما عدا التطبيع الكامل، والاستمرار في هذا الوضع يعني مزيدا من التطبيع السري ومزيدا من الفقر والمواطن لا يعلم ماذا يجري وراء الكواليس، فلماذا لا يخرجون الى الضوء والعلن ويشارك المواطن العربي في القرارات والأعمال ويكون جزءا من الحدث بدلا من الجلوس في الظلام ومحاولة معرفة ما يجري وهو مغيب عن كل شيء.