صحافة تضيّع وقت القراء

التحدي أمام صحافتنا العربية يبدأ بالتخلص من سطوة الحكومات، وإعادة صناعة خطابها بما يجعلها خدمة عامة، الصحافي مثل رجل الإسعاف، لا يفكر بمردود حين يعمل على إنقاذ شخص ما.
أستطيع تخيّل الصدمة التي تسببها صحيفة تنشر صفحة كاملة لاتحمل غير “الشتائم” لدولة أخرى.

القراء لا يملكون غير التهكم والازدراء حيال ما يقرأونه من نصوص رديئة، لكنهم سيكونون في أسعد حالاتهم لو تسنى لهم استبدال الجملة الشهيرة “إضاعة وقت الشرطة” حيال ما تنشره الصحافة من مواد لا أهمية لها، لتصبح “إضاعة وقت القرّاء”. الشرطة تتهم المشتكين من مسائل تافهة بإضاعة وقت رجالها، والقراء لا يملكون هذا الحق في محاسبة الصحف والقنوات التلفزيونية إلا أمام أنفسهم، بينما وسائل الإعلام مستمرة بنشر محتوى متردٍّ خالٍ من الأفكار المفيدة.

إذا كان الشر الذي يفعله الرجال يبقى ماثلا بعد رحيلهم، وفق الحكمة الشكسبيرية في “يوليوس قيصر”، فإن حضور النصوص غير المفيدة والكلام المكرر بشكل دائم في الصحافة سيوصمها بالضعف والارتباك، لأنها لن تعبر في تلك النصوص عن أي من الأهداف التي وجدت من أجلها.

هناك حزمة كبيرة من الأمثلة التي تجعل من وسائل الإعلام “تضيّع وقت الجمهور”، كما توجد حزمة أخرى من الأمثلة لوسائل إعلام تروج للسائد والسطحي من أجل النزول عند رغبة جمهور ما، الأمران متشابهان بالضرر الذي يسببانه لصميم مهنة الصحافة.

لم تعد الصحافة مغرورة مثلما كانت منذ أن أنزل المواطنُ الصحافيُّ، الصحافيَّ من برجه العالي، وصار منافسا له، وهذا يعني بالضرورة أن الصحافي بحاجة إلى إعادة ابتكار مهنته، لكن لسوء الحظ سقطت نسبة كبيرة من وسائل الإعلام في لجة تنافس لا يعيد ترتيب العلاقة المتراجعة مع الجمهور في الزمن الرقمي، وهو أمر ليس عادلا بحق الصحافة ولا بحق الجمهور.

الصحافة العربية بدت متساهلة مع السياسيين والحكومات ورجال الدين، بغير ما يأمل الجمهور، كما أنها فتحت متنها لكلام متردٍّ لا يفضي إلى شيء فيما يصنع المواطن الصحافي قصصه المتميزة، بغض النظر عن حدود المسؤولية فيها.

ولأن الصحافة المخلصة لمبادئها ترفع درجة الحساسية حيال ما تنشره، تصبح لغة خطابها المعتمدة لدى الناس وليس ما ينشره المواطن الصحافي. لكنها صارت عبئا ومثارا للتساؤل أكثر منها مصدرا لتبادل المعلومات وربط المجتمع بديمقراطية من الأفكار الحرة.

لم يعد جمهور القراء في محل قبول “الصورة الكاريكاتيرية” عن إنجازات الحكومة، فكل محاولة لإحياء هذه الصورة الميتة في أرشيف الصحافة غير مجدية اليوم، هناك زمن رقمي مفتوح أمام ما يحدث، ولم يعد دور الصحافة صناعة رأي اللون الواحد، بل عرض كل الألوان على اختلاف مستوى تأثيرها وترك الناس أمام خياراتها. اختلاف عرض الألوان لا يعني بأي حال من الأحوال التكرار والرداءة.

أستطيع تخيّل الصدمة التي تسببها صحيفة للقراء عندما تنشر كلاما لا أهمية له، لأنه ارتبط بما يكتبه أحد “ديناصورات” الصحافة، فصار يكتب وفق ما تملي عليه ذاكرته بعد أن هرم، بينما هو عاجز عن صناعة فكرة جديدة.

وأستطيع تخيّل الصدمة التي تسببها صحيفة تنشر صفحة كاملة لا تحمل غير “الشتائم” لدولة أخرى.

كما أتخيل صدمة المشاهدين حيال قناة تلفزيونية تخصص ساعة من البث لمهرج، لأنه يتحدث عن الآخرين بالبذاءات بلغة ركيكة وجمل غير مترابطة وتمنحه أعلى الرواتب.تستطيعون أن تتخيلوا صدمات متتالية تسببها لنا وسائل الإعلام اليوم، لكن الناس -لسوء الحظ- لا يستطيعون محاسبتها كما يفعل رجال الشرطة مع مقدمي الشكاوى التافهة، مع أن بعض وسائل الإعلامية “تضيع وقت الجمهور”.

من المخاطرة بمكان الاهتمام بشكل دائم بأخبار لا أهمية لها وإعادة نشرها لأنها تهم الأنشطة التقليدية للحكومات والالتفاف على أخبار أكثر أهمية منها.

قبل سنوات احتج جمهور هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” الممولة من قبل دافعي الضرائب على تخصيص وقت أكثر مما ينبغي لخبر وفاة الزعيم نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، مطالبا القناة بتخصيص وقت لأخبار تهمه أكثر، كانت وقتها موجة الفيضانات تهدد مدنا عديدة في بريطانيا، بينما خبر وفاة رئيس سابق طاعن في السن لا يشغل اهتمام هذا الجمهور أكثر من مصير أوضاع آلاف الناس تحت وطأة غرق منازلهم.

لدينا صحف وقنوات عربية تخصص مساحات واسعة لأنشطة لا أهمية لها يقوم بها الرئيس أو الوزير أو الأمير، وتحول الحماس الديني والطائفي لدى وسائل الإعلام إلى حمى مستعرة، في وقت لا تعطي مساحة مقبولة لمعاناة الناس وما يهمهم أكثر.

إذا كانت مسؤولية الحكومات بشكل عام هي نزع فتيل الأزمات، فإن مسؤولية الصحافة ألا تخفي عن الناس الأزمات والتعريف بها والتحذير منها. ومع أن التوقعات ليست قاتمة مع وجود جيل صحافي متحرر من الثقافة السائدة يحاول تحدي الخطاب الحكومي المتردي والاستحواذ على الرأي العام، وتحدي السطوة الإعلامية المخيفة لرجال الدين.

مع ذلك يبقى التحدي أمام صحافتنا العربية أشق وأكبر، يبدأ من إعادة تنظيم نفسها بالتخلص من سطوة الحكومات والمال السياسي الفاسد، وإعادة صناعة خطابها بما يجعلها خدمة عامة، الصحافي مثل رجل الإطفاء أو الإسعاف، لا يفكر بمردود حين يعمل على إنقاذ شخص ما.