صراع الوبائين كورونا والنظام العالمي

الاختلال السياسي في العالم أضيف له آخر اليوم الاختلال العلمي والنفسي والقيمي.

هل الإنسان ابن الذاكرة يتعلم من التجارب، وعليه سيتغير العالم؟ أم انه ابن النسيان لا يبالي، وعليه سيكمل العالم مساره من دون تعديل كأن كورونا عاصفة ومرت؟ في بدء الأزمة أعطى الحكام للدورة الاقتصادية الأولوية على صحة المواطنين. هذا مؤشر سلبي. أما تأملات الناس في حجرهم المنزلي فتركت انطباعا بأن مفهومهم للوجود تبدل. هذا مؤشر إيجابي. المهم ألا يكون هذا التبدل نتيجة خوف آني فقط. خوف الناس يزول ومصالح الدول تبقى.

خوفنا هذه المرة عميق ووجودي. أصبح استراتيجيا. كنا نعتبر أن الأوبئة السابقة فتكت بالبشرية عبر التاريخ لأن العلم كان لا يزال بدائيا. أما اليوم، فكورونا يفتك بنا في أوج تقدم البحوث العلمية والجرثومية. إنها ظاهرة مقلقة، شأنها أن تدفع العلماء إلى تعديل وجهة أبحاثهم، والأنظمة أولوياتها. الإنسانية تطلب طمأنينة تنقذها من ضيقها الحضاري رغم رحابة الكون. الإنسانية تطالب بالتحرر من احتكار العقل والالتحاق برعاية الإيمان. لا يستطيع العقل وحده إسعاد الإنسان من دون الإيمان.

رغم تخمة التقدم التكنولوجي، تشعر الإنسانية بنقص روحي ما. والحوكمة المبنية على المصالح المادية أخفقت في إدارة العلاقات بين البشر. لقد أخطأ ڤولتير في ادعائه أن "الاستبداد يزول مع زوال الدين"، فيما أصاب نيتشه حين توقع أن "يزحف القرن العشرون بوحشية، وأن يكون العلم في خدمته".

صيف 2019 قرأت كتاب "ذعر العالم" للمؤرخ الفرنسي توما غومار رئيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية. حلل فيه عنف التحولات في العلاقات الجيوسياسية في العصر الحالي، وتوقع أن تكون المجتمعات المتقدمة أكثر عرضة للخطر لأن تطورها يسير خلاف الحقيقة الإنسانية. وفي فترة "التعبئة العامة" عدت إلى كتاب قديم في مكتبتي: "الحصان الأبيض في القاطرة" (1967) للروائي المجري آرثور كوستلر، يبين فيه أن انحراف العالم في القرن العشرين نشأ في المجتمعات المتطورة وليس في تلك المتخلفة.

رجعت إلى هذين الكتابين وأنا أقرأ أن مجلس الأمن الدولي لم يجتمع لعجزه عن إصدار بيان عن وباء كورونا بسبب خلاف بين واشنطن وبكين وروسيا على بعض التعابير. دول تصفي حساباتها السياسية على حلبة كورونا. اللامسؤولية مقرونة باللاأخلاقية. ما عوض هذا الخبر خبر آخر: البنك الدولي وضع مبلغ 150 مليار دولار لمساعدة البلدان النامية في مواجهة كورونا.

حتى لا تبقى المشاعر فردية وتتبخر مع عودة الحياة الطبيعية، جدير بقوى المجتمع الحية من مرجعيات روحية ووطنية وفكرية واجتماعية وبيئية أن تحول الخوف حكمة، وتغذي هذا التطور النفساني وتحميه وتثبته تاريخا جديدا للبشرية. ما ولد في العزلة لا يجب أن يموت في المخالطة. هكذا، تصبح تأملات الفرد جزءا من مشروع تغيير سلوكي جماعي ومجتمعي. المواطن الإنسان ينتظر ثورة حضارية.

ضعف المعرفة التاريخية لدى الأجيال الحديثة في العالم أعاق الاتعاظ من التجارب، وحصرية المعرفة التقنية ضربت مناعة الثقافة وقدرتها على المقارنة بين ما يجري وما جرى. الأجيال الحديثة تعرف من التاريخ آثاره السياحية لا أحداثه المؤثرة. تنظر ولا تقارن. تعرف قصر ڤرساي لا عهد لويس الرابع عشر، والباستيل لا قصة الثورة الفرنسية، وفخر الدين المعني الثاني لا استقلالية إمارة الجبل، ولينين لا الثورة البولشيفية، وتشي غيفارا لا حروب الأدغال في أميركا اللاتينية. تقارن بين قصر وآخر وبين اسم وآخر، لا بين قضية وأخرى ومعركة وأخرى ومأساة وأخرى. الجدلية مبتورة. حدود المقارنة لدى الأجيال الحديثة تقف عند الآيفون والإيميل وميكروسوفت وآﭘل، إلخ... وحين يزعجها بطء الحركة تنتقل من 3G إلى 4G فـ 5G. خارج كدها المهني، نضالاتها مجازية وعابرة. الحقيقة أن العالم فصل بين العلم والثقافة وبين التقدم والتاريخ. في مجتمعات الحضارة الاستهلاكية جعل الإنسان الحاضر مشروع مستقبل وأهمل الماضي، فألقى التاريخ القبض علينا. التاريخ يظهر علينا بأشكال شتى، آخرها كورونا.

منذ شهر وعلماء الاجتماع يدرسون تأثير كورونا على مسار الإنسانية. لا يزالون في مدار التساؤلات والتوقعات. ماذا سيبقى من النظام العالمي الحالي؟ أي نظام جديد سيولد؟ هل يغير الاقتصاد مرتكزاته الملوثة؟ هل ينخفض سكان المدن لصالح الريف؟ هل تصمد الوحدات الإقليمية أمام النزعة الانفصالية؟ هل تدخل البشرية في حالة انهيار نفسي أم تتخطى هواجسها؟ هل يؤدي هذا الامتحان الكوني إلى بروز زعماء على مستوى التاريخ؟ هل تنشب حروب جديدة أم يتحقق سلام دولي؟ هل يعود العالم إلى واقع ما بعد الحرب العالمية الأولى (1918 - 1939) حين نبتت النزاعات المتطرفة والحروب الساخنة، أم إلى واقع ما بعد الحرب الثانية (1945 - 1990) حين ظهرت التحالفات الدولية والحرب الباردة؟

جزء من هذه التساؤلات كان مدار نقاش قبل وباء كورونا بسبب الاختلال الذي اعترى النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (1991) وفشل الولايات المتحدة في قيادة العالم. إلى هذا الاختلال أضيف آخر اليوم هو الاختلال العلمي والنفسي والقيمي. وبقدر ما التغيير حتمي بعد هذه الصدمة البشرية، النظام العالمي القائم متجذر في القارات بشبكاته البرية والبحرية والجوية واللاسلكية والافتراضية. الأنظمة العالمية السابقة كانت إقليمية أكثر منها عالمية، فسهل تعديلها وإسقاطها. أما النظام الحالي فهو كوني ويتمطى كخيوط العنكبوت. مصالح المجتمعات والدول مترابطة رغم تناقضها، حتى أصبح تغيير هذا النظام، بآليته وبشبكته على الأقل، أقرب إلى الانهيار، وهو قيد الحصول، منه إلى التقدم، وهو قيد التفكير. صحيح أن الحياة توقفت مع كورونا لكن مشاكلها باقية.