صلاح عوض عمر يوثّق 'السودان ثورة وقضايا معاصرة'

الباحث السوداني يرى في كتابه ان توغل الأحزاب السياسية في الجيش السوداني أطال أمد الحكم العسكري.

ثلاث ثورات في فترة لم تتجاوز 60 عاما إلا قليلا شهدتها السودان (ثورة أكتوبر 1964م، وثورة أبريل 1985م، وأخيراً ثورة ديسمبر 2018)، الأمر الذي يؤكد أن للشعب السوداني روحا ثورية مختزنة ويختزن أيضا جهدا شعبيا في غاية القوة، بل ويصل إلى أقصى درجة وهي التضحية بالروح من أجل المبادئ والقيم والشعارات الشعبية المطلوب تحقيقها لحياة إنسانية كريمة.

وهذا الكتاب التوثيقي "السودان ثورة وقضايا معاصرة.. أفق جديدة" للباحث السوداني د.صلاح عوض عمر يقدم قراءة شاملة، وتحليل يحيط بإحكام علمي بالسياقات التاريخية العالمية والإقليمية، لما جرى للسودان وللسودانيين بالأخص لكنداكات وشباب ثورة دطية تنميسمبر 2018، حيث يحكي بتوثيق علمي التاريخ السياسي والإجتماعي، تاريخ الأحداث والشخصيات، وتقدم وقائع وأحداث وصولا إلى طرح مشروع التغيير الثوري في السودان، والمتمثل في طموح وتحدي بناء دولة المواطنة وفق مرتكزاتها والتي تتلخص في بناء دولة دميقراوية .

يرصد صلاح في سياق تحليلاته وقراءاته في كتابه الصادر عن دار الأدهم أخيرا عددا من الثورات التي شهدها العالم بدءا بثورة الجياع في مصر قبل الميلاد في عهد الملك بيبي الثاني، ومرورا بالثورات التي وقعت في الشرق والغرب قديما وحديثا، وانتهاء للثورات المتعاقبة في السودان، ويقول "عند مقارنة فترات الدكتاتورية التي أطاحت بها الثورات، نجد أن عمر سابقتها. فحكم الدكتاتورية العسكرية للفريق إبراهيم عبود (1900 ـ 1983) استمر لستة أعوام، فيما استمر حكم المشير جعفر نميري (2009م) ستة عشر عاما، واستمرت دكتاتورية المشير عمر البشير (1944- ). ويكمن تفسير هذا التفاوت في الفترة الزمنية التي يستغرقها نظام الحكم الدكتاتوري في أن كل نظام يدرس جيدا نقاط الضعف التي كانت تكمن في بنية النظام الذي سبقه في الحكم، ومن ثم يقوم بوضع خططه التي تمكنه من الاستمرار لأطول فترة ممكنة في التشبث بمقاليد الحكم. دكتاتورية نميري مثلا (مايو 1969 ـ 1985م) تقلبت في مناورات سياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين خلال الستة عشر عاما، وذلك لكي تجدد من أسلوبها ولكي تنال مزيدا من الاستمرار في الحكم، فيما عمدت دكتاتورية الجبهة الإسلامية (30 يونيو 1989م) إلى وضع خطتها للحكم باتباع خطة التمكين، أو انتهاج نهج التمكين، بوضع يدها وبسط سيطرتها على كل مفاصل الدولة، وعىل كل أجهزتها وفرض التوجه الأيديولوجي للجبهة الإسلامية على أجهزة الدولة بناء على (التأصيل) أو كما ظلوا يرددون (تأصيل المجتمع، تأصيل الدولة، تأصيل المواطن) أي رده إلى الأصول الإسلامية وفق أيديولوجيتهم السياسية. وممارستهم الحزبية وقد أنتج هذا كما هو سائد ومعلوم وواقع معاش دكتاتورية في غاية الاستبداد والشراسة عند التصدي لخصومها السياسيين.

ويرى أن الدكتاتورية الدينية، على وجه الخصوص، عمدت إلى ربط حكمها وسطوتها وبرنامجها السياسي بالشعارات الدينية، والزعم بكونها الممثل للدين الإسلامي، والمكلفة برسالة بعث الدين الإسلامي مجددا. وأخذ طموحها مأخذا بعيدا بتوهم أن مشروعها الحضاري- هو رسالة عالمية، واشتطت في الوهم فسعت لتجعل من انقلاب عسكري على حكم ديمقراطي في 30 يونيو 1989م، مهمة لا تقتصر فقط على البلاد فقط، بل إن لها دورا قياديا على مستوى العالم، وذلك تحت رايات الثورة الإسلامية العالمية. وقد جعلت من البلاد مركزا للثورة الإسلامية العالمية، بإشرافها (تمثل هذا في تأسيس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي بإشراف المرحوم د.حسن الترابي (1932 ـ 2016م) ـ وقد كان إعلان تأسيس المؤتمر في العام 1991م، وأدى هذا الإعلان وتأسيس المؤتمر إلى تدفق الدعم الخارجي من الحركات الإسلامية ومن شخصيات إسلامية (أشهر الشخصيات أسامة بن لادن (1957- 2011م) والذي قضى أعواما في الخرطوم حتى غادرها) كانت تحمل ذات الحلم، وقد أسهمت هذه الشخصيات الإسلامية في تقديم مساهمات كثيرة للحكم الدكتاتوري وساعدته مساعدة كبرى في فك العديد من الأزمات التي واجهته في المراحل الأولى من عمره.

ويوضح صلاح أن ما أفرزته الدكتاتورية من شرائح (وبالطبع تعمد تلك الشرائح للاستفادة من مناخ القمع ومصادرة الحريات وتجاهل هيبة القانون بل إهدارها) يمثل قيمة مضافة لشرائح الدكتاتوريات اللاحقة. ومنها تأسست وشائج بين هذه الشرائح وذلك لأنها تتماثل في المصالح وفي المزايا التي ظلت تستمتع بها. لقد كونت هذه الشرائح الاجتماعية ما يشبه الطبقة، ولهذه الشريحة قيادة تتمثل في طائفة (أصحاب المال الطفيليين) أو طفيليي السوق، وهم الذين يعيشون ويراكمون أموالهم من تسهيلات الدولة. تسهيلات الدولة تتوفر لهم وتتراكم من خلال الفساد الإداري متمثلا في تصديقات أراض ومشاريع زراعية، ومنح للاستحوإذ على أراض استثمارية، وتسهيلات بنكية بدون أي ضوابط متعارفه متفق عليها وفق قوانين الخدمة المدنية، بل فقط بناء على الولاء التنظيمي العقائدي. هذه الشريحة انتبهت لضرورة وجود مؤثر لها في مفاصل السياسة، وذلك لكي تحافظ على مكتسباتها تحت مختلف الظروف. هذه الشريحة الاجتماعية تلعب أدوارا تبادلية بين عناصرها المختلفة إذ إن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية ذات سمة واحدة وهي السمة الطفيلية.

ويؤكد أن القوى الاجتماعية التي تشكلت من هذه الفئات كانت أدوارها تتفاوت من ثورة إلى أخرى، وإذا أخذنا حالة ثورة ديسمبر، وهي الحراك الثوري الذي اختلف عن سابقيه في مسيرة الثورة والتغييري الثوري السوداني (وذلك الاختلاف يتمثل في أن الحركة النقابية كانت قد أصبحت جزءا من النظام) رغما عن ذلك استطاعت القوى النقابية المعارضة أن تحقق انحيازا للهبة الشعبية، ممثلة في هيئاتها الشرعية السابقة لدكتاتورية الإسلاميين أن تبتدع تجمعا نقابيا آخر، واستطاعت أن تنفذ من خلاله لتعلن انطلاق المد الثوري. لقد استطاع تجمع المهنيين أن يبث روح الثورة في الشعب، واستطاع أن يدفع بها للأمام، ولقد نال إجماع كل الذين جابوا الشوارع متظاهرين في بقاع السودان المختلفة، حتى بلغ ذلك المد الشعبي الثوري قمته بتحول سياسي بإزالة قمة النظام الدكتاتوري، ثم استمر متدفقا فبلغ مرحلة المواجهة التاريخية الجديدة في صراع الثورة السودانية وأعدائها التاريخيين، ذلك هو الاعتصام التاريخي الشهير أمام مقر القيادة العامة للجيش (6 أبريل 2019-3 يونيو 2019م) لقد مثل هذا الحدث الشعبي الثوري (الاعتصام) منذ بدايته ملحمة ثورية مضيئة، وستظل خالدة أبد الدهر في جبين السودان.

ويشير صلاح إلى أن توغل الأحزاب السياسية في الجيش والإصرار على استخدامه كأداة للحصول عىل السلطة السياسية لا ينفي الحقيقة التاريخية الرأسخة المتمثلة في أن الشعب السوداني يظل مهام تطاول آمد الحكم العسكري ومهما ابتدع من وسائل لتثبيت حكمه، يظل الشعب السوداني مقاوماً صبوراً وباستمرار لكي يحكم نفسه بحكم ديمقراطي مدني. والتضحيات التي قدمها الشعب السوداني ليحقق حكم نفسه بحكم مدني ديمقراطي تظل أكبر دليل عىل ذلك.

وفي خاتمة جهده الفكري التوثيقي يعرض صلاح لسيناريوهات متوقعة تستقرأ والقارئي اللحظة التاريخية في حراكها .ثلاث سيناريوهات لحكم السودان أولها سيناريو نفي الثورة، والذي يتمثل في الصراع بين قوى الثورة المضادة، والتي تحاول نفي مشروع التغييري الثوري أو بعبارة أخرى محو وإزالة وتشويه شعارات ثورة ديسمبر 2018 .والسيناريو الثاني يتمثل في محاولة قوى توصف (بالمتنحية) ويتمثل الوصف في توضيح أنه مع تصاعد الصراع السياسي الإجتماعي، الاقتصادي، ستواجه فئات إجتماعية بعينها ضرورة خوض الصراع للحفاظ على مصالحها، ونفوذها السياسي والإجتماعي وستجد إضطراراً ضرورة تحديد موقف حاسم محدد لها إزاء الآخرين .أما السيناريو الثالث فيتمثل في بشارة الكاتب ـ صلاح ـ بإنتصار قوى الثورة والتغيير الثوري وبناء الدولة المدنية التنموية الديمقراطية.