'صوفيا بتروفنا' تضيء فترة التطهير الستالينية

أهمية رواية ليديا تشيكوفسكايا تأتي من أنها من أحد أعمال قليلة جدًا عن القمع كُتبت مباشرة في ذروة الرعب وليس بعد سنوات من انتهاء حكم احد اكثر الشخصيات عنفا في التاريخ.

حكم جوزيف ستالين الاتحاد السوفيتي بقبضة من حديد وتسبب في مقتل ما لا يقل عن 20 مليون شخص خلال فترة حكمه التي امتدت على مدار نحو ربع قرن، حتى لقد صنف ضمن قائمة أكثر الشخصيات دموية بالتاريخ البشري. وقد كتبت عن فترة حكمه مئات الكتب ما بين التأريخ والفكر والإبداع. وربما تأتي أهمية رواية "صوفيا بتروفنا" للكاتبة ليديا تشيكوفسكايا، أنها من أحد الأعمال الروائية القليلة جدًا عن القمع التي كُتبت مباشرة في ذروة الرعب وليس بعد سنوات من انتهاء حكم ستالين.

كتبت الرواية بين عامي 1939ـ 1940 اعتماد على التجربة الشخصية للكاتبة، حيث اعتقل زوجها الفيزيائي الشاب ماتفي برونشتاين في حملة التطهير الستالينية عام 1937، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات، لكن هذا يعني وقتئذ كان يعني الحكم بالإعدام، الذي تم تنفيذه بالفعل في 18 فبراير 1938 وفي محاولة لمعرفة مصيره قضت سنوات في طوابير السجن وعلى أبوابها، ولم تعلم الكاتبة بوفاته إلا في عام 1939. وهنا بدأت مباشرة في كتابة الرواية بعد تجربة عامين من هذا الإذلال والقمع على أبواب وطوابير السجن.

تحكي رواية "صوفيا بتروفنا" التي ترجمها الروائي يوسف نبيل وصدرت أخيرا عن دار الرافدين عن قهر وقمع ديكتاتورية ستالين من خلال عيون موظفة عادية، تم القبض على ابنها وإدانته. تم نشر القصة بعد سنوات عديدة فقط من كتابتها، أولا في الخارج، ثم في الاتحاد السوفياتي (سابقا). تم إنتاج فيلم روائي طويل بناءً عليها.

في مقدمته للرواية يشير يوسف إلى أنه في شتاء 1939 كتبت ليديا تشيكوفسكايا هذه الرواية التي تدور أحداثها عن حملة التطهير الستالينية في 1937. لأعوام طويلة ظلت هذه الرواية القصيرة حبيسة دفتر واحد صغير. لم تستطع الكاتبة أن تحتفظ بهذا الدفتر في منزلها الذي تعرض للتفتيش لأكثر من مرة. احتفظت به الكاتبة لدى أحد أصدقائها. قبل اندلاع الحرب العالمية بشهر واحد اضطرت الكاتبة إلى مفارقة لينينجراد والذهاب إلى موسكو لإجراء عملية طبية. بقي صديقها في لينينجراد. لم تستطع الكاتبة العودة إلى لينينجراد في أثناء الحرب، ومات صديقها هناك جوعًا إثر الحصار الرهيب الذي ضربته القوات الألمانية حول المدينة. قبل موته بيوم واحد فقط أعطى الدفتر لأخته وأخبرها أن تعيده إلى ليديا تشيكوفسكايا إذا كُتبت لهما الحياة. عاد الدفتر فعلًا إلى الكاتبة، ومات ستالين. استطاعت الكاتبة أن تنسخ الرواية. قرأها بعض الأصدقاء وأشادوا بها. أخيرًا أرسلتها إلى إحدى دور النشر عسى أن تنال الموافقة على النشر.

ويوضح "نال الكتاب كل الموافقات اللازمة، حتى إن ليديا تشيكوفسكايا كتبت مقدمته فعلًا كما طلبوا منها، ووقعت العقد، ونالت 60% من أجرها قبل النشر بحسب التعاقد. أخيرًا، وقبل النشر مباشرة، رفضت كبيرة المحررين هناك نشر الكتاب، وقد اشتهرت بمناصرتها للنظام الستاليني. قررت الكاتبة مقاضاة دار النشر، حيث إن الكتاب نال كل الموافقات اللازمة وتم توقيع العقد. طالبت الكاتبة بحقها في تلقي الأجر كاملًا. وبالرغم من عدم تعاطف المحكمة مع مادة الكتاب في حد ذاتها فإنها حكمت لصالح ليديا تشيكوفسكايا، وأرسلت دار النشر بقية الأجر لها فعلًا، أما عن نشر الكتاب، فلم يكن للمحكمة دور في هذا. انتقلت مخطوطة الكتاب من يد ليد، وعبرت الحدود، ونُشِرت كاملة لأول مرة في باريس بعنوان: "المنزل المهجور"، ثم نُشرت في أمريكا ثم أخيرًا في روسيا على جزأين في مجلة "المجلة الجديدة"، ولم تُنشر في روسيا في صورة كتاب إلا في عام 1988.

ويلفت يوسف إلى أن ليديا تشيكوفسكايا (1907 – 1996) شاعرة وروائية وكاتبة مذكرات، ابنة لكورني تشايكوفسكي، وهو كاتب شهير في مجال كتب الطفل. تزوجت من عالم فيزياء شاب، وقُبض عليه باطلًا في أثناء حملة التطهير الستالينية في 1937 وأُعدم في 1938، وكان من الممكن أن يُقبض على ليديا لولا بُعدها عن لينينجراد في ذلك الوقت. ظلت تنتقل من مدينة إلى مدينة، واضطرت لمفارقة ابنتها، وظل مصير زوجها مجهولًا لفترة بالنسبة لها، وفي أثناء فترة الانتظار هذه كتبت "صوفيا بتروفنا".

ويكشف أن ليديا كانت صديقة مقربة للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، وكذلك للأديب الروسي ميخائيل زوشينكو، وقد تعرضوا جميعهم للاضطهاد والقمع. تُعد هذه الرواية القصيرة لها من الكلاسيكيات الروسية المهمة المكتوبة عن فترة التطهير التي مات ضحيتها ملايين الروس. تبدو طريقة كتابة الرواية خادعة بعض الشيء. في البداية قد يشعر القارئ أنها تفتقر إلى الجاذبية، حيث تتسم بلغة بسيطة بعيدة تمامًا عن الزخرفة والمجاز والصور الشعرية. رويدًا رويدًا يجد القارئ نفسه قد تورط بنعومة، من دون أن يدري، في أحابيلها، حتى يصل إلى نهايتها الكابوسية.

ويؤكد يوسف أن الرواية ترصد في الأساس تأثير الكذب على المجتمعات. قالت الكاتبة ذات مرة إنها أرادت أن تُبين كيف يمكن تسميم شعب بأكمله بالأكاذيب مثلما يمكن أن تتعرض قوات عسكرية للتسمم بالغاز. اختارت الكاتبة نموذجًا صعبًا على المستوى النفسي: نموذج الأم، لتُبين كيف يمكن للدعايا الأيدولوجية حينما تحيط بالمجتمع كاملًا وتزرع الهلع في نفوس الناس بدرجة مخيفة، أن تشوه حتى أقوى المشاعر الفطرية كمشاعر الأم. تقدم لنا الكاتبة عبر بطلتها الروائية نموذجًا مخيفًا للمواطن السوفييتي في تلك الحقبة، والصراعات النفسية التي ينخرط فيها حينما يجد الأيدولوجيا التي عبدها تختطف منه أفراد أسرته، ولا يصدق عينه.

تمتلئ الرواية بتفاصيل الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت: الشقق المشتركة وعلاقات العمل، كما تعرض لنا تفصيلًا الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي واجهتها الأسر التي فقدت ذويها في حملة التطهير. كل هذا يقدم لنا توثيقًا حيًّا لهذه الفترة، ولكن بالإضافة إلى أهمية الرواية التوثيقية، ثمة أهمية أدبية كبيرة أيضًا لها، حيث تقدم الكاتبة درسًا في الاختزال الروائي واعتصار الكلمات واستخدام أبسط العبارات لخلق رواية جيدة ومحكمة.

 

مقطع من الرواية:

لآن صارت تخشى الجميع وتخاف من كل شيء؛ صارت تخشى البوَّاب الذي ينظر إليها بلا مبالاة، وتبدو نظرته قاسية في كل الأحوال. صارت تخشى مدير البناية الذي توقف عن الانحناء بالتحية لها، ولم تعد مديرة الشقة، فقد اختاروا زوجة المحاسب بدلًا منها. صارت تخشى زوجة المحاسب خشيتها من النار. صارت تخشى فاليا أيضًا، وتخاف المرور بالقرب من دار النشر. بعودتها إلى المنزل بعد المحاولات غير المجدية لإيجاد عمل، صارت تخشى النظر إلى الطاولة في غرفتها، فربما تجد مذكرة ما من الميليشيا. لا بد أنهم سيستدعونها هناك حتى يأخذوا منها جواز سفرها وينفوها، أليس كذلك؟ صارت تخشى كل جرس لئلا يكونوا قد جاءوا من أجل مصادرة ملكيتها.

خافت أن تنقل مالًا لأليك. في عشية يوم 30، وبينما تشق طريقها إلى الطابور، اقتربت منها كيباريسوفا. لم تكن كيباريسوفا تذهب إلى الطابور في يومها وحسب، بل تذهب كل يوم تقريبًا لتعرف من النساء الواقفات مَن الذي نفوه ومَن الذي لا يزال هنا، وهل تغير الجدول أم لا.

همست كيباريسوفا في أذن صوفيا بتروفنا عندما حكت لها الأخيرة الهدف من مجيئها:

ـ لا جدوى مما تفعلينه، لا جدوى إطلاقًا. بهذه الطريقة سترتبط قضية ابنك بقضية صديقه، وستكون النتيجة سيئة. المادة رقم 58 الفقرة رقم 11: المنظمات المعادية للثورة... لا أفهم لماذا تفعلين ذلك!

عارضتها صوفيا بتروفنا بحذر:

ـ لكنهم لا يسألون عن اسم المرسِل، بل يسألون فقط عن المرسَل إليه.

أخذتها كيباريسوفا من يدها، وابتعدتا عن الناس. قالت لها همسًا:

ـ إنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا السؤال، فهم يعرفون كل شيء.

كانت عيناها كبيرتين، بندقيتَي اللون، ناعستين.

عادت صوفيا بتروفنا إلى منزلها.

في اليوم التالي لم تنهض من على فراشها. لم يكن لديها ما تنهض من أجله. لم تُرِد أن تغير ثيابها وترتدي جواربها وتُخرِج قدميها من الفراش. لم يزعجها فوضى الغرفة والغبار... فلتدعها كذلك! لم تشعر بالجوع. ظلت مستلقية على الفراش، لا تفكر في شيء بعينه، ولا تقرأ شيئًا. منذ فترة طويلة والروايات لم تعد تسليها، فلم تعد تستطيع أن تنقطع عن حياتها لثانية واحدة وتُركِّز في شيء غريب. صارت الصحف تبعث فيها شعورًا بهلع غامض، فقد كانت كلماتها على طراز الكلمات التي تقرأها في مجلة الحائط "طريقنا". في أحيان قليلة، تُنحَّي دثار الفراش وغطاءه، وتنظر إلى قدميها اللتين صارتا ضخمتين ومتورمتين كما لو أنهما منقوعتان في الماء.

عندما يفارق الضوء الحوائط ويحل المساء تتذكر خطاب ناتاشا. إنه موجود تحت وسادتها دائمًا. أرادت صوفيا بتروفنا أن تعيد قراءته. استندت إلى مرفقيها وأخرجته من الظرف.

"عزيزتي صوفيا بتروفنا، لا تبكي عليَّ، فلم يعد أحد في حاجة إليَّ. الأمر هكذا أفضل. ربما تنتهي الأمور كلها بخير، ويعود كوليا إلى المنزل، لكن لم يعد بوسعي الانتظار حتى تنصلح الأمور. في الوقت الحالي لا أستطيع فهم السلطة السوفييتية. أما أنتِ فعيشي حتى يحل الوقت الذي يمكن فيه أن ترسلي له الطرود، فسيكون في حاجة إليها. أرسلي له سلطعونًا ومربى الفاكهة، فهو يحبهما. أُقبِّلك بشدة وأشكرك على كل شيء، وعلى كلماتك عني في الاجتماع. أشعر بالأسف على ما تعانينه من أجلي. فليذكرك المفرش الذي حِكته لكِ بي. أتتذكرين كيف كنا نذهب معًا إلى السينما؟ عندما يعود كوليا ضعي المفرش على الطاولة أمامه، فألوانه ساطعة ومبهجة. قولي له إني لم أصدق عنه أي شيء سيئ قَط".

أعادت صوفيا بتروفنا الخطاب إلى مكانه تحت وسادتها. ألا يجب أن تمزقه؟ لقد ذكرت فيه شيئًا عن النظام السوفييتي الراهن. ماذا لو وجدوا هذا الخطاب؟ حينما يربطون بين قضيتَي كوليا وناتاشا، ما الذي سيتبقى حينها؟ لقد ماتت ناتاشا فعلًا.