ضعف الإرادة في رواية "الطريق"

رواية "الطريق" لنجيب محفوظ تدور حول شخصية صابر، وهو شاب في العقد الثلاثيني من العمر يعيش في كنف والدته بسيمة عمران.
صابر لا يملك أي معلومات عن والده سوى اسمه وصورة زفاف قديمة له مع والدته
الحوار بين الشخصيات يكشف عن مكنوناتها وثقافاتها وحكمتها أو تهوّرها

هل كان صابر ضحية لإثرث والدته أو ضعف الإرادة في اتخاذ القرار هو ما وضعه أمام الدوامة؟ ربما يكون هذا السؤال مناسباً لمقال يدور حول رواية "الطريق".
تعتبر رواية "الطريق" من أشهر روايات نجيب محفوظ وصدرت عام 1964، وتدور أحداث الرواية حول شخصية صابر، وهو شاب في العقد الثلاثين من العمر الذي يعيش في كنف والدته بسيمة عمران، وهي صاحبة أشهر بيوت البغاء في الإسكندرية. طوال فترة حياتها كانت بسيمة عمران تمنح صابر كل ما يحتاجه من أموال وعقارات دون أن تحثه على العمل أو إكمال دراسته، فنشأ الابن معتمداً اعتماداً كلياً على أموال والدته التي تمت مصادرتها عندما وقفت في وجه أحد كبار الدولة. 
"إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان.. المدير فلان.. الخواجا علان.. سيارات وملابس وسيجار .. كلمات حلوة.. روائح زكية .. لكني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجردون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفذ، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا اذكر اسم واحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك فأمك أشرف من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني أنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي"، فدخلت السجن وقضت فيه خمس سنوات من عمرها، خلال هذه الفترة دق الفقر باب صابر المدلل الذي اعتاد على حياة الرفاهية بالاعتماد على أموال والدته التي كانت تأتي بطرق غير مشروعة، لم يستطع صابر التعايش مع الوضع الجديد؛ الفقر والجوع ومصادرة الأموال والعقارات، رجل لم يخلق إلا للحب كما قالت عنه كريمة (الوجه الآخر لبسيمة عمران) وزوجة صاحب الفندق الذي سيقطن فيه صابر بحثاً عن والده الغائب المجهول.

إلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر

كانت بسيمة عمران بعد خروجها من السجن وشعورها بدنو أجلها قد اعترفت له بأن والده لا يزال على قيد الحياة، (سيد سيد الرحيمي)، لا يملك صابر أي معلومات عن والده سوى اسمه وصورة زفاف قديمة له مع والدته وعقد الزواج، فتشير بسيمة على ولدها بأن يبحث عن والده الغائب ليحميه من الفقر لأنه من وجهاء البلد وأعيانها حسب كلامها، فيبدأ صابر رحلة البحث بعد وفاة والدته التي لم تترك له شيئا سوى ماضٍ ملطخٌ بالعار. 
مع بزوغ كل فجر جديد نتخذ عشرات القرارات الصغيرة والكبيرة الصائبة والخاطئة، طيف واسِع، لا حُدُود له منَ القرارات اليوميَّة. هناك قرارات في غاية الأهمية، هذه القراراتُ هي التي سترسم ملامح المستقبل، وتُشَكِّل الحياة، هي المسؤولةُ عن هذا التبايُن الكبيرِ بين الناس مِن حولنا، قرارات يجب أن تُعطى انتباهًا أكبر، وحِرصًا أشد، وللأَسَفِ يترُكها كثيرٌ منَ الناس للحَظِّ، أوِ الصُّدفَة، أو لغيرهم كما فعل صابر الذي قرر أن يستغرق وقته كله في البحث عن والده ليحميه بماله وجاهه من مشاكل الحياة دون أن يفكر لحظة في الاعتماد على نفسه، عاش دور التابع لوالدته وبعد وفاتها حاول أن يعيش دور التابع لسيد سيد الرحيمي (والده)، وفي أثناء بحثه عن الأب الغائب تخيره الحياة بين طريقين: طريق كريمة، الزوجة الخائنة التي باعها زوجها الأول (البلطجي) ابن خالتها إلى الحاج خليل أبوالنجا صاحب الفندق العجوز، وطريق إلهام الفتاة العصامية الواعية التي تفهم الحياة بتعقديداتها وتعمل على بناء مستقبل منشود، تعرف عليها صابر عندما زار الجريدة التي تعمل فيها، لينشر إعلانا عن والده الغائب. المفارقة هنا أن إلهام قد مرت بظروف مشابهة لظروف صابر فقدت رعاية والدها الذي تركها ووالدتها لكنها لم تبحث عن من يرعاها فضلت الاعتماد على نفسها، لكن طريق إلهام هو طريق العمل بالشرف والأمانة، وهو طريق صعب على من هم مثل شاكلة صابر "ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولا يهددها ماضٍ ملوث قد ينقلب في أي لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد".
وبعد ان يضنيه البحث عن والده الغائب وتبدأ أمواله بالنفاذ يقرر صابر أن يسلك طريق كريمة زوجة صاحب الفندق ومالكه التي تفاجئه في غرفته ذات ليلة وهي تقنعه بأنها تحبه، لكنها تخطط للتخلص من زوجها الهرم الذي (اشتراها) بماله ولم يوفر لها احتياجاتها الإنسانية، ليكون الزوج العجوز (خليل أبوالنجا) ضحية قتل بشع بتآمر منها وتنفيذ من (صابر) الباحث عن المال والراحة والحب بمفهومه الخاص. "إلهام.. ليست إلا عذاباً، أما كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباط لن ينفصم حتى الموت، وحاجتك إليها كالجوع الكافر وإن قذف بك في أعماق الجحيم". 
لم يكن صابر ضحية نشأته والظروف المحيطة به بل كان ضحية اختياراته الخاطئة، سلك طريق كريمة (طريق الشهوة والجريمة) الذي توقع أن يحظى في ظله بالسعادة والسلام والرفاهية والطمأنينة، لكن من العبث أن لا تشك الشرطة بأمر صاحب الماضي الملوث فيقع صابر في يد الشرطة التي تنصب له شباكها وتراقبه ليجد نفسه في السجن وكأنه في رحم.

novel
الشحاذ يكمل رؤية الكاتب لفهم طريق الخلاص

"في سجن الموت تتحرر من علاقات الحياة كلها فلا تهمك الفضائح. أنت متحرر من الكبرياء والخجل، كما كنت وأنت في الرحم. صابر يقبض عليه متلبساً بقتل عشيقته. صابر له قصة. بسيمة عمران إمبراطورة الليل بالإسكندرية. عللته عند اليأس والإفلاس بجاه أب مجهول". 
وكأن محفوظ في هذه الرواية يصور لنا طريقين للحياة ، طريق العبث والشهوة يقود إلى ارتكاب أبشع الجرائم، وطريق الحب النقي الخالص والعمل الشريف بحثاً عن المستقبل المنشود هو الذي يقود إلى الخلاص، "ارجع إلى الإسكندرية واعمل قوادًا لأعدائك، اقتل واغنم كريمة ومالها، استخرج الرحيمي من الظلمات وتزوج إلهام. آه.. وشتاء القاهرة قاسٍ لا يضمر المفاجآت ولا يعزف موسيقى السماء، وما أزحم شوارعها ومحالها فهي سوق تتلاحق فيها الأجساد والسيارات، وأكثر من امرأة تجد فيك ما تبحث عنه بنظرة واحدة على حين تشقى أنت عبثًا في البحث عن سيد الرحيمي".  
"إلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر". ويظل الإنسان ابن بيئته، (بسيمة) الأم المنحرفة الساخطة التي امتهنت الرقص والدعارة والغيرة فقتلت وسجنت ثم ماتت لتضع ابنها (صابر) أمام تحديات العمل في البلطجة أو العثور على والده في القاهرة، ربما... وهي التي أحاطته برعايتها وعاطفتها فدلّلته إلى الحد الذي لم يعد معه يجيد أي عمل سوى البلطجة والقتل! و(الأب) الغامض الغائب (سيد سيد الرحيمي) رمز الخلاص الوهمي هو خرافة؛ ليس واقعا، لن يحضر ليخلّص هذا الضائع الحائر الباحث عن خلاص خارجي لمأساته ومشكلاته. 
وفي النهاية يدرك: "أنه لاجدوى من الاعتماد على الغير" فيجيبه المحامي الذي تطوع للدفاع عنه بطلب من إلهام "بل هناك جدوى فيما هو معقول!". 
يترك الكاتب نهاية الرواية مفتوحة، وقد روى روايته هنا بأسلوب الراوي العليم المشرف على الأحداث؛ ما كان منها وما سيكون، واستخدم تقنية الفلاش باك والمونولوج الداخلي معتمدا على إبراز التناقضات الداخلية والأحاسيس والخوف البشري. وكعادته أطال الكاتب الحوار بين الشخصيات ليكشف عن مكنوناتها وثقافاتها وحكمتها أو تهوّرها، فالحوار وسيلة للكشف، ولتطوير الحدث، وإيصال رسائل الكاتب الخفية، الرمزية. ومن هنا يمكن الوقوف على رمز "الشحاذ" ذي الصوت الشجي وهو يواصل ترديد لازمته (محمد يا حبيبي....). رجل كفيف النظر دميم الخلقة يلحّ بلا يأس طالبا الخلاص والدعم، ويحضر شخصه أو صوته حضورا ذا دلالة في وعي الكاتب. لم يكن شخصية عابرة بل هو يكمل رؤية الكاتب لفهم طريق الخلاص. لم يخل مكان أو زمان اجتمع فيه البشر من استغلال بعضهم لبعض، وقد صدق هوبز إذ أقر أن الانسان ذئب للإنسان.