
ضغوط تخنق حزب الله وتجبره على مراجعة حساباته لتسليم ترسانة أسلحته
بيروت – أفادت مصادر مطلعة إن حزب الله بدأ مراجعة استراتيجية كبرى بعد الحرب المدمرة مع إسرائيل تتضمن بحث تقليص دوره كجماعة مسلحة دون تسليم سلاحه بالكامل، إذ بات يدرك أن ترسانة الأسلحة التي جمعها لردع إسرائيل ومنعها من مهاجمة لبنان أصبحت عبئا عليه.
وتعكس المناقشات الداخلية، التي لم تكتمل بعد ولم يتم الكشف عنها من قبل، الضغوط الهائلة التي تتعرض لها الجماعة المدعومة من إيران منذ التوصل إلى هدنة في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني.
وتواصل القوات الإسرائيلية قصف المناطق التي تسيطر عليها الجماعة، متهمة إياها بانتهاك وقف إطلاق النار، وهو ما تنفيه الجماعة التي تواجه أيضا ضغوطا مالية شديدة ومطالب أميركية بتسليم سلاحها وتراجع نفوذها السياسي منذ تولي حكومة جديدة السلطة في فبراير/شباط بدعم أميركي.
وزادت الصعوبات على حزب الله بسبب التحولات الكبرى في ميزان القوى بالمنطقة منذ أن قضت إسرائيل على قيادتها وقتلت الآلاف من مقاتليها ودمرت جزءا كبيرا من ترسانتها العام الماضي.
وأطاح فصيل من المعارضة السورية المسلحة ببشار الأسد حليف حزب الله في ديسمبر/كانون الأول 2024 مما أسفر عن قطع خط رئيسي لإمدادات الأسلحة من إيران.
وقال مصدر أمني في المنطقة ومسؤول لبناني رفيع المستوى إن هناك أيضا شكوكا بشأن حجم الدعم الذي يمكن أن تقدمه طهران التي تخرج الآن من حرب ضروس مع إسرائيل.
وذكر مسؤول كبير آخر مطلع على المداولات الداخلية لحزب الله، أن الجماعة تجري مناقشات سرية عن خطواتها التالية. وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن لجانا صغيرة تجتمع شخصيا أو عن بعد لمناقشة مسائل، مثل هيكل الجماعة القيادي ودورها السياسي وعملها الاجتماعي والتنموي وأسلحتها.
وأضاف المسؤول ومصدران آخران مطلعان على المناقشات أن حزب الله خلص إلى أن ترسانة الأسلحة التي جمعها لردع إسرائيل ومنعها من مهاجمة لبنان أصبحت عبئا.
وقال المسؤول "كان لدى حزب الله فائض قوة، كل تلك القوة تحولت إلى نقطة نقمة"، موضحا أن حزب الله "ليس انتحاريا".
ونما حزب الله تحت قيادة الأمين العام حسن نصر الله، الذي قتل العام الماضي، ليصبح لاعبا عسكريا في المنطقة بعشرات الآلاف من المقاتلين والصواريخ والطائرات المسيرة المستعدة لقصف إسرائيل. كما قدم الدعم لحلفائه في سوريا والعراق واليمن.
وأصبحت إسرائيل تعتبر حزب الله تهديدا كبيرا. وعندما فتحت الجماعة النار تضامنا مع حليفتها حركة حماس في بداية حرب غزة عام 2023، ردت إسرائيل بغارات جوية في لبنان والتي تطورت لاحقا إلى هجوم بري.
وتخلى حزب الله منذ ذلك الحين عن عدد من مستودعات الأسلحة في جنوب لبنان وسلمها للقوات المسلحة اللبنانية كما هو منصوص عليه في هدنة العام الماضي، وتقول إسرائيل إنها تقصف بنية تحتية عسكرية لا تزال مرتبطة بالجماعة.
وقالت المصادر إن حزب الله يدرس الآن تسليم بعض الأسلحة التي يمتلكها في مناطق أخرى من البلاد، لا سيما الصواريخ والطائرات المسيرة التي تعتبر أكبر تهديد لإسرائيل، بشرط انسحابها من الجنوب ووقف هجماتها.
لكن المصادر قالت إن الجماعة لن تسلم ترسانتها بالكامل. وقال حزب الله إنه يعتزم على سبيل المثال الاحتفاظ بأسلحة خفيفة وصواريخ مضادة للدبابات باعتبارها وسيلة لصد أي هجمات في المستقبل.

وذكر الجيش الإسرائيلي إنه سيواصل عملياته على طول حدوده الشمالية وفقا للتفاهمات بين إسرائيل ولبنان، بهدف القضاء على أي تهديد وحماية المواطنين الإسرائيليين.
وينظر إلى احتفاظ حزب الله بأي قدرات عسكرية على أنه لا يرقى لمستوى الطموحات الإسرائيلية والأميركية. وبموجب بنود وقف إطلاق النار، الذي توسطت فيه الولايات المتحدة وفرنسا، يتعين على القوات المسلحة اللبنانية مصادرة كل الأسلحة غير المصرح بها بدءا من المنطقة الواقعة في جنوب نهر الليطاني، وهي المنطقة الأقرب إلى إسرائيل.
وتطالب الحكومة اللبنانية حزب الله بتسليم ما تبقى من أسلحته في إطار سعيها لترسيخ مبدأ أن يكون السلاح بيد الدولة حصرا. وقد يثير عدم القيام بذلك توترا مع خصوم الجماعة داخل لبنان، والذين يتهمونها باستغلال قوتها العسكرية لفرض إرادتها في شؤون الدولة وجر لبنان إلى صراعات متكررة.
وتقول جميع الأطراف إنها لا تزال ملتزمة بوقف إطلاق النار رغم تبادل الاتهامات بانتهاكه.
ويعتبر السلاح من أساسيات عقيدة حزب الله منذ أن أسسه الحرس الثوري الإيراني لمحاربة القوات الإسرائيلية التي غزت لبنان في 1982 في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها بين 1975 و1990. وأشعل التوتر بشأن ترسانة الجماعة الشيعية صراعا أهليا قصيرا آخر في 2008.
وتصنف الولايات المتحدة وإسرائيل حزب الله جماعة إرهابية. وقال نيكولاس بلانفورد الذي كتب كتابا عن تاريخ حزب الله إنه سيتعين على الجماعة، من أجل إعادة بناء نفسها، تبرير احتفاظها بالأسلحة في ظل بيئة سياسية تزداد عدائية بينما تعمل على مواجهة الخروقات المخابراتية التي تسببت في إلحاق أضرار بالجماعة وضمان تمويلها على المدى الطويل.
وأضاف بلانفورد الباحث في المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث أميركي، أن الجماعة "واجهت تحديات من قبل لكن ليس بهذا الحجم في آن واحد".
وقال مسؤول أوروبي مطلع على تقييمات مخابراتية إن الجماعة تجري الكثير من النقاشات بشأن مستقبلها لكن من دون نتائج واضحة. ووصف المسؤول وضع حزب الله كجماعة مسلحة بأنه جزء من هويتها، قائلا إنه سيكون من الصعب عليها أن تصبح حزبا سياسيا بحتا.
وأفاد نحو اثني عشر مصدرا مطلعا على نهج تفكير حزب الله بأن الجماعة تريد الاحتفاظ ببعض الأسلحة ليس فقط تحسبا لتهديدات من إسرائيل في المستقبل، لكن أيضا لقلقها من أن يستغل مسلحون سنة في سوريا المجاورة التراخي الأمني لمهاجمة شرق لبنان، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية.
ورغم النتائج الكارثية للحرب في الآونة الأخيرة مع إسرائيل، من نزوح عشرات الآلاف وتدمير مساحات شاسعة من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، فإن الكثير من أنصار حزب الله الأساسيين يريدون أن يظل مسلحا.
وأشارت أم حسين، التي قتل ابنها أثناء القتال في صفوف حزب الله والتي لا يزال أفراد من عائلتها ينتمون للجماعة، إلى التهديد الذي لا تزال تشكله إسرائيل وتاريخ الصراع مع الخصوم اللبنانيين ضمن أسباب هذه الرغبة.
وقالت "حزب الله هو ضهر الشيعة، حتى لو ضعف الآن… كنا جماعة فقيرة ضعيفة ما حدا يحكي فينا، هلق العالم صارت تتوسط وتقدم لنا ورق للحلول، ليش برأيك؟ لأن حزب الله موجود".
وأفادت مصادر مطلعة على مشاورات حزب الله بأن الأولوية العاجلة هي تلبية احتياجات الفئات التي تحملت وطأة الحرب.
وقال نعيم قاسم الأمين العام لحزب الله في ديسمبر/كانون الأول إن الجماعة دفعت أكثر من 50 مليون دولار للأسر المتضررة، بينما لا يزال يتعين تقديم أكثر من 25 مليون دولار أخرى. لكن هناك مؤشرات على نقص الأموال لدى الجماعة.
وقال أحد سكان بيروت إنه دفع تكاليف إصلاح شقته في الضاحية الجنوبية الخاضعة لسيطرة حزب الله بعد أن لحقت بها أضرار خلال الحرب، وذلك قبل أن يرى المبنى بأكمله يتدمر جراء غارة جوية إسرائيلية في يونيو/حزيران.
وأضاف الرجل، الذي رفض الكشف عن هويته خشية أن تهدد شكواه فرصه في الحصول على تعويض، "العالم صارت مشتتة بلا مأوى، وبعد ما في حدا وعدنا بالدفع ثمن إيواء أبدا"، وتابع أنه تلقى شيكات من حزب الله لكن مؤسسة القرض الحسن التابعة للجماعة أبلغته بعدم توفر الأموال لصرفها.
وقالت ثلاثة مصادر مطلعة إن من بين المؤشرات الأخرى على وجود ضائقة مالية التخفيضات في الأدوية المجانية التي تقدمها صيدليات تديرها جماعة حزب الله.
وتحمل جماعة حزب الله الحكومة اللبنانية مسؤولية توفير تمويل إعادة الإعمار. لكن وزير الخارجية يوسف رجي، وهو معارض لحزب الله، قال إنه لن تكون هناك مساعدات من المانحين الأجانب حتى يكون السلاح بيد الدولة وحدها.
وصرح متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية في مايو/أيار إن انخراط واشنطن في دعم إعادة الإعمار في لبنان بصورة مستدامة "لا يمكن أن يحدث دون أن تلقي جماعة حزب الله سلاحها".
كما تمارس إسرائيل ضغطا لخنق موارد حزب الله المالية، وقال الجيش الإسرائيلي في 25 يونيو/حزيران إنه قتل مسؤولا إيرانيا كان يشرف على تحويلات بمئات الملايين من الدولارات سنويا إلى جماعات مسلحة في المنطقة، بالإضافة إلى شخص في جنوب لبنان كان يدير شركة صرافة ساعدت في إيصال بعض هذه الأموال إلى حزب الله.
ومنذ فبراير/شباط، يحظر لبنان الرحلات الجوية التجارية بين بيروت وطهران، وذلك بعد أن اتهم الجيش الإسرائيلي حزب الله باستخدام طائرات مدنية لجلب أموال من إيران وهدد باتخاذ إجراءات لوقف ذلك.
وأفاد مسؤول ومصدر أمني مطلع على العمليات في مطار بيروت بأن السلطات اللبنانية شددت أيضا الإجراءات الأمنية في المطار الذي كانت جماعة حزب الله تتمتع بحرية التحرك فيه لسنوات، مما جعل من الصعب على الجماعة تهريب الأموال بهذه الطريقة.
وأججت هذه الخطوات غضب أنصار حزب الله تجاه الإدارة التي يقودها الرئيس جوزيف عون، وكذلك تجاه نواف سلام الذي لا يحظى تعيينه في منصب رئيس الوزراء بقبول من حزب الله.
وحققت الجماعة فوزا ساحقا في الانتخابات المحلية التي جرت في مايو/أيار إلى جانب حركة أمل الشيعية المتحالفة معها، وهو ما شمل الفوز بالعديد من المقاعد بالتزكية. وستسعى الجماعة إلى الحفاظ على هيمنتها في الانتخابات التشريعية العام المقبل.
وقال نبيل بو منصف نائب رئيس تحرير صحيفة النهار اللبنانية إن انتخابات العام المقبل جزء من "معركة وجود" لحزب الله. وأضاف "سيستعمل كل الوسائل التي يستطيع القيام بها أولا ليستفيد من مسألة الوقت بالكامل على قد ما بيقدر لحتى ما يسلم سلاحه، وثانيا قدر ما يستطيع تحقيق مكاسب بالسياسة وبالشعبية".