طرد اللاجئين السوريين في تركيا واستراتيجيات الردّ

الأخوان هم أداة تركيا في توجيه الضربات المعنوية للاجئين بمسمى انهم من أبناء البلد.

لم تكن مشاهد القتل والتدمير الممنهج الذي اتبعه النظام السوري وحليفته روسيا بحقّ ما تبقى من المدنيين في إدلب الأقسى خلال الأيام الماضية، فعلى الجانب الآخر من الحدود كانت هناك مشاهد أخرى من الإذلال البشع للاجئين السوريين في اسطنبول التركية بعد قيام السلطات التركية بتكبيل أيديهم ورميهم في الحافلات العامة قبل أن تقوم بترحيلهم، في صورة تحاكي حال المجرمين أو الارهابيين عند اعتقالهم، على الرغم من أنهم كانوا يوماً ما مكسباً نوعياً وكمياً رأت تركيا أنه لا يمكن التفريط به.

تلك المشاهد تؤكد على اتفاق جميع الأطراف على مسألة أن يبقى الانسان السوري محكوماً بالقتل في بلاده وبالذل والخنوع في البلدان الأخرى، والسوري لا حال له ولا قوة، هذا هو الظاهر، أو كما يُعتقد، وكأنه فقد جميع أوراقه ولم يعد في يده أيّ شي منها، حيث يغيب على جميع الأطراف وأولها تركيا أن القضية لن تنتهي بمجرد إذلال وطرد آخر سوري هناك، وقتل آخرهم هنا، على العكس، يمكن لهؤلاء أن يسلبوا تركيا أهم أوراق الضغط لديها في سوريا أو بوجه الغرب، وأن يمتلكوا كلّ تلك الأوراق إذا ما قرروا العودة لجوهر قضيتهم، وفهموا أن مسألة استقبال تركيا لهم أو طردهم من هناك كانت ولا تزال تحكمها غايات سياسية تركية بحتة يوظفها أردوغان لمصالح أُمته العاجلة في ظلّ الفوضى.

الورقة الأهم هي أن يفهم السوري نفسه قبل الآخرين أنه ليس غنيمة حرب تُعوّض للأتراك ما صرفوه (من أموال بلاد عربية وأممية) على مشاريعهم التوسعية في المنطقة بحجج إنسانية، فالحرب هنا لم تنتهِ وأسواق الغنائم مؤقتة، والغنيمة نفسها مؤقتة، قد يُبنى عليها أو قد تكون هدّامة، حيث لا يمكن الاستعجال في توظيفها بالطريقة التي تتم الآن من قبل حكومة أردوغان؛ جلبها، تشغيلها بأبخس الأثمان، توظيفها للحصول على المكاسب من الآخرين، تقديمها كدروع ومطية لحروبها في الخارج ومن ثم التخلص منها بطريقة استخباراتية بدائية. يمكن للاجئين السوريين –كلّ اللاجئين- البدء بالعصيان الاقتصادي وخاصة في المدن الكبرى، لم يُكتب لهؤلاء أن يكونوا خدماً لغيرهم، لا حقوق معترف بها ولا وثائق تضمن وجودهم.

بلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا نحو 3 ملايين و597 ألف، يتواجد نحو 600 ألف لاجئ في المخيمات، بينما يعمل نصف العدد المتبقي أو أقل بقليل في أعمال تعتبر بمعظمها شاقة.

العصيان الاقتصادي يعني أن يتوقف السوريون عن العمل لفترة قصيرة أو طويلة حيث سترتفع قيمة الأجور، وترتفع معها قيمة كلّ شيء في تركيا، ويزيد التضخم في ظلّ أزمات اقتصادية وعقوبات مفروضة على تركيا، إضافة إلى العجز عن تحقيق عوائد من القطاعات الانتاجية لشركات السوريين التي وصل عددها نحو 10 آلاف شركة ومعمل، فضلاُ عن إحداث الخلل في سوق العمل مع رفض الأتراك العمل بنفس الأجور التي يرضى بها العامل السوري، ومشاكل أخرى ليس آخرها انسحاب الشركات الأجنبية التي عولت خلال الأعوام الماضية على الأجور المتدنية التي تدفعها للعامل السوري وساعات العمل الطويلة التي يقبل بها خاصة في شركات البناء والأعمال الأخرى الشاقة.

يجب أن لا يغيب عن أذهان الأتراك أن خزانة الدولة التركية مُطالبة اليوم بإخراج الأموال المخصصة للاجئين والتي تدفعها المفوضية الأوروبية لتركيا (ثلاثة مليار يورو)، وكذلك مليارات الدولارات التي ضختها الميليشيات التابعة لتركيا في الأسواق التركية عبر سرقة وتفكيك الالاف من المعامل السورية، وسرقة المحاصيل الزراعية بدءاً من الزيتون العفريني الذي وصل ثمن محصوله المسروق خلال عام 2018 إلى أكثر من 100 مليون يورو وصولاً إلى الآثار وسكك الحديد. فضلاً عن قيمة الاستثمارات السورية في تركيا والتي تجاوزت 1.5 مليار دولار، وكذلك حجم الاستثمارات التركية وقيمة البضائع التي تتحكم بها في المناطق الخاضعة لسيطرة أنقرة في الشمال السوري، حيث ساهمت كلها في صمود الاقتصاد التركي خلال الأعوام الماضية.

يمكن للرأسمال السوري المغترب في تركيا التوجه إلى أسواق أفضل، أو التهديد بذلك في حال استمرار إذلال السوريين بالطريقة التي تتم الآن.

الورقة الأخرى هي مسألة تواجد الجيش التركي على قسم كبير من الأراضي السورية، حيث لا يخفى على أحد حجمه وغاياته العاجلة والآجلة، وكذلك ممارساته، فالسوري الذي لجأ إلى تركيا بلباسه الرثة وظّفه الأتراك ليكون جسراً لإدخال جنودهم وأحدث مدافعهم ودباباتهم إلى سوريا، فمن الواجب تذكير تركيا بالخروج من سورية قبل أن تُخرج هي اللاجئين من أراضيها، يمكن للاجئين المهددين بالطرد أن يقولوا للأتراك "أخرجوا من أرضنا قبل أن تُخرجوننا من أرضكم"، تركيا التي تهين السوريين وتذلهم علناً على أراضيها تدعي حمايتهم على ارضهم، من الضروري الاتفاق على أن الغزوات التركية المتكررة في سوريا أضرت بالسوريين ولم تقدم لهم سوى أوهام اعتاد الأتراك على تصميم عنترياته عبر التاريخ، ولعل ما تتعرض له إدلب من مجازر تحت أعين النقاط التركية تنسف كل حجج التدخل التركي، وتفضح أساليب الأتراك في توظيف الضحايا لتنفيذ مخططاتهم وتطوير علاقاتهم مع القوى الدولية والمحلية بما يخدم مصالحهم.

القوات التركية تتحرك بكل حرية على الأراضي السورية وكأنها صاحبة الأرض، لا بطاقات حماية مؤقتة ولا اعتراف بالقوانين المحلية والدولية، في الوقت التي تتذرع قواتها الأمنية بطرد السوريين بسبب عدم حصولهم على الكيملك (بطاقة الحماية المؤقتة) وعدم التزامهم بالقوانين التركية، إضافة إلى تعكير الأجواء الاجتماعية والسياسية التركية، العودة لجوهر القضية يكمن في إن ارتهان فئة سورية لمشاريع "العثمنة" أحدث قطيعة بين السوريين أنفسهم وولدت العداء بينهم استجابة لمصالح وحروب تركية كانت الأرض السورية ميداناً لها، كما أغفل حقيقة أن مشاكل السوريين ازدادت وتعقدت قضاياهم أكثر بعد التدخل التركي، حيث لا يمكن إنكار ازدياد عدد التفجيرات، الاغتيال، الاختطاف، السرقات، الجريمة والظلم بعد دخول الجنود الأتراك إلى المنطقة، لم تكن المنطقة بذاك المستوى من السوء السياسي والعسكري والاجتماعي قبل 2016، كما لم تكن القضية السورية بذاك التعقيد وبعيدة عن الحل كما هو عليه الآن وخاصة في مناطق توغل تركيا، لا يمكن تصوّر دوافع ابتعاد القوى العربية والدولية بما فيها المنظمات الحقوقية والانسانية عن السوريين دون تذكر المساعي التركية في السيطرة على المعارضة السورية وربط مصيرها بالجندي التركي المتوغل في الاراضي السورية، وتجريدها من الدعم الاقليمي والدولي.

التَمنُن التركي في العطاء على السوريين وإيوائهم في الخيم، رسّخ فكرة أن كلّ شيء مباح لتركيا على الأراضي السورية والاعتقاد بإمكانها تقديم نموذج جيد من الأمن والحكم المحلي، قبل أن يصطدم الناس بغزو عثماني واسع بدأ بتغيير أسماء المدن والقرى وفرض التتريك على المدارس والمجالس المحلية وصولاً إلى إحداث التغيير الديمغرافي في الكثير من المناطق. من اللافت هروب الكثير من الناس من مناطق سيطرة تركيا وميليشياتها في شمال سوريا، ورفض اللاجئين العودة إليها بما فيهم المهجّرون إلى تركيا نفسها، ممارسات الميليشيات التركية واستخباراتها ساهمت في بلورة حدّ أعلى من المواقف التي ينظر بها الناس إليها بصفة تنظيمات أشبه بالعصابات الاجرامية استناداً إلى إحصائيات مخيفة من حالات الخطف والقتل وفرض الفدية جرت في مناطق سيطرتها، وتورطها في تنفيذ مشاريع "العثمنة" بعيداً عن القضايا التي خرج الناس من أجلها في سوريا.

يمكن للسوريين رفع دعاوي قضائية ضد تلك الانتهاكات التي تستهدف هوية المنطقة، كما لا يمكن التسامح مع تركيا في قضايا قتلها للمئات من الهاربين من الحرب على حدودها. تشير الاحصائيات إلى مقتل نحو 436 مدنياً سورياً، وتعرض نحو 370 إلى الاصابة والاعتداء الجسدي على أيدي الجنود الأتراك، فضلاً عن أكثر من 450 مدنياً قُتلوا خلال قصف الطائرات والمدفعية التركية خلال غزوة عفرين. وعدد آخر قُتلوا في حوادث مشبوهة في تركيا نفسها.

بغية فرض رؤيتها وسياساتها على اللاجئين، شكلت تركيا ما تسمى بلجان اللاجئين، وهي لجان تضم رجالا ونساء مرتبطين بالأخوان المسلمين، الذراع التركية في المنطقة. غالباً ما يصطف هؤلاء إلى جانب الدولة التركية في القضايا الشائكة مع اللاجئين، وهم يؤيدون علناً إجراءاتها ويدعون اللاجئين إلى الالتزام بالتعليمات التي غالباً ما تكون مخالفة لقوانين حقوق الانسان. بسبب تبعيتهم العمياء، لم يتمكن هؤلاء من نقل الصورة الصحيحة عن اللاجئين للمواطنين الأتراك، ولم يساهموا سوى في تأمين أوضاع قانونية أفضل لأنصارهم دون غيرهم، لذا، يمكن للاجئين تشكيل لجان جديدة تكون إلى جانبهم وليس ضدهم، ومن خلالها يمكن التفاوض مع السلطات التركية، وكذلك إيصال ملفات الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها السلطات التركية بحقهم إلى الجهات الحقوقية الدولية، يمكن إعداد تقارير دورية عن تلك الانتهاكات وتوثيقها.

ما هو الثابت، أن حجم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تورطت فيها تركيا في الداخل والخارج هو السبب الأول والأخير في مسألة طرد اللاجئين السوريين والتضييق عليهم، وما هو مؤكد أنه لدى أنقرة قائمة بالسوريين من التجار وأصحاب رؤوس الأموال وكذلك قيادات وأعضاء من الأخوان المسلمين بما فيهم قادة عسكريون يمكن أن يصبحوا نواة لجيش انكشاري جديد وحرس للسلطان اردوغان داخل الأراضي السورية. هؤلاء يمكن الاحتفاظ بهم والاستفادة منهم أطول فترة، حيث من الواضح تماماً أنه ليس كلّ السوريين مطلوبون للطرد، وهنا تظهر محاولة تركية جديدة في تشتيت المجتمع السوري بشكل أكبر؛ تشتيت في الداخل بإحداث حروب استنزاف داخلية وفتن بين السوريين أنفسهم، وتشتيت في الخارج، في داخل تركيا، باختيار فئة سورية وتفضيلها على الآخرين من حيث الصلاحيات والامكانات وتقديمها كأذرع لها تستغلها في تنفيذ مخططاتها.