عائشة عجم مهنا فنانة الإستثناء في الحراك التشكيلي السوري

عائشة عجم مهنا تعتبر بحق أيقونة الفن الفطري في التشكيل السوري، مارست الرسم وهي في الخامسة والثمانين من عمرها.
مهنا كانت تمارس الخياطة والتطريز خلال حياتها اليومية
تتجول في الذاكرة على أحصنة تجيد الصهيل جيداً

عائشة عجم مهنا (1916- 2006) والدة الفنان التشكيلي عبدالرحمن مهنا، وتعتبر بحق أيقونة الفن الفطري في التشكيل السوري، مارست الرسم وهي في الخامسة والثمانين عاماً من عمرها، كانت تمارس الخياطة والتطريز خلال حياتها اليومية. قد يكون لذلك دوره إضافة إلى طقوس العائلة في حضور الألوان في المكان على نحو كثيف، أقول قد يكون لكل ذلك دوره في توجيه مخزونها نحو التفجير والإنبعاث. يقال لما عاد عبدالرحمن مهنا إلى بيته وجد لوحة رسمت بألوان أطفاله وعلى أوراقهم، لكنها كانت تحمل إضافة إلى الخطوط الطفولية فكراً كبيراً، فجاء لها بما يلزمها من ألوان وأوراق لتبدأ رحلتها الفنية التي بدأت من هنا، الرحلة التي رسمت مسارها الصدفة النادرة، والإنتماء العميق، فبدأت باختزال هواجسها من مخزون الزمن الذي تراكم في دواخلها وملامحها معاً، من مخزون عاطفتها وما تحمله من قيم جمالية بالغة الإكتمال مرسخة إنفعالاتها وما تنتجه من معايير خاصة بمهارة خاصة تنبض بكل الحيوية في تفهمها للذوق الحقيقي وأموره الجوهرية على نحو يثير الدهشة نظراً لقرابة ما تطرحه من صياغات مشبعة روحياً، وتترجم ببراعة حكايات الأقدمين وقصصهم الشعبية التي أينعت ثمارها على مدى التاريخ، بنكهتها الطيبة، وبوقعها العذب كحرف حين يخط بداية شكل ما، تترجم بيئتها المحلية بمفرداتها البسيطة، تتجول في الذاكرة على أحصنة تجيد الصهيل جيداً، تلتقط منها ما تخبئه الأصوات من أمكنة مكتظة بقلوب مؤهلة لتحقيق آمال وطموحات إنسانية مهما كانت الآلام والمآسي كبيرة، فعجم لا تغذي الأوهام وإن كانت في طور الإنتقال من الحالات التي تندرج تحتها ملكات معرفية / حياتية إلى الحالات الجزئية للأشياء.

هي تحاول - وبفطريتها ومن خلال الشعور الكلي المنزه عن الغرض الخاص - إشباع توقعاتها بالإستمتاع بالعمل الفني الذي فيه يكمن التعبير عن موروث إجتماعي، وعن تلك النشاطات الخاصة بحياة المرء الداخلية منها والخارجية، فالعجم لا تفقد معرفتها الخاصة أبداً، وتعرف رائحة ألوانها ومعانيها وإن كانت تجيب بكلمة (أتسلى) حين تسأل لماذا ترسم، وهي على ألفة بأشكالها الفنية وما تحمله من أفكار إجتماعية وإنسانية، وتتقمصها بشعور لا ينفصل فيه الخاص عن العام، وتبقى للمتعة الجمالية حضورها الأهم وعلى نحو نقي وملحوظ، وبخصائصها الإنفعالية المختلفة، وبعناصرها الإنسانية المتصالحة دائماً مع واقعها، وهذا ما يجعل لبيادرها وفرة وغنى تستوعب كل شحناتها التعبيرية الفطرية، بل تستوعبها بذاتها المتواجدة بحب في ثنايا اللون وكأنها تلخص مقولة بأن الفنان هو اللون واللون هو الفنان.
عائشة العجم تتوق إلى البحث عن متنفسات لها في أمكنتها الخاصة، في تلك الأمكنة غير المحايدة، والتي كانت لها الأثر الأكبر في جمهرة شخصياتها على نحو واضح وملموس، في جمهرة أبطالها الشعبيين الإيجابيين وتجسيدهم من الجوانب كلها، بمظاهرهم وتجلياتهم وعلى نحو واسع، وعلى جميع المستويات، فتتلمس تطورهم وتحولهم وفهمهم للعالم كمحيط يوحد حاجتهم الداخلية للمعرفة الفنية، ومن خلال تجربتها الفردية المختلفة والمتعددة الألوان نستخلص جملتها الفنية وما قدمته من أعمال إبداعية والتي تعتبر بحق وبعمق فنّاً شعبياً بوصفه مبدأ جمالي للواقعية، وفيها من الطبيعية والصدق اللذين يشكلان كشرطين ضروريين للإبداع الفني الحق (حسب تعبير بليخانوف) ما يجعلاها تقبض على الجميل الذي بات يفقد من الحياة، فهي مصورة صادقة للحياة التي تنبض فيها، وما هو صادق وصحيح عندها هو بالضروة شعبي، وكأن بيلينسكي حين قال ذلك قال عنها، فالصيغة الشعبية مقولة جمالية عند العجم بها تحدد تجربتها ومصائر شخوصها بتفاصيل حياتهم ودقتها، فالحالات الأكثر بروزاً عندها تفيض بعاطفية واضحة ودوافعها، مختارة الأحداث الأهم من التاريخ والحاضر وبحدس فني توظف كل ذلك حتى يغدو عملها جميلاً، وتغدو فكرتها فراشة، وتعبيريتها فهماً جديداً للعملية الإبداعية مرتبطة بكل سماتها.

عائشة عجم تلقي الضوء على العلاقات الحياتية اليومية، على علاقة الإنسان بالإنسان، عن مواصفاته بهندسة ملامحه حتى تشكل العملية تجسيداً فنياً في مواجهة الواقع بخطوط فيها من التبسيط والصدق ما يكفيان لرسم الحرية والسعادة على القلوب، وهذه خطوة مهمة وعظيمة على طريق إلتصاق الفن بالحياة الشعبية، حتى كادت أن تصبح ظاهرة شعبية فلوحاتها لوحات الحياة التي تحياها الفئات الشعبية وملايين الناس البسطاء، مكتسبة قصصهم وشخوصهم وبطولاتهم وحبهم، وتحتفظ بروحهم التي هي روحها أيضاً بين تراكماتها وتجاربها وخبراتها الحياتية، بين ألوانها الفطرية التي ستبقى قادرة على النبض في المشهد البصري الفطري على إمتداد شروق الشمس.
عائشة عجم فنانة الإستثناء في الحراك التشكيلي السوري، دخلته وهي في الخامسة والثمانين من عمرها وهذا إستثناء، مارسته ست سنوات فقط وفعلت فعلاً جميلاً لم يفعلها غيرها في هذه الفترة الزمنية القصيرة، وهذا إستثناء أيضاً، قدمت فيها أربعة معارض فردية في كل من المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، وفي صالة نقابة الفنون الجميلة بحلب، وفي المركز الثقافي في أبو رمانة بدمشق، وفي المركز الثقافي الإسباني معهد ثرفانتس) بدمشق. كما مارست الرسم أمام الجمهور وكل هذا أيضاً إستثناء، ألا يحق لنا أن نقول عنها إنها أيقونة الفن الفطري السوري ومعزوفته الأجمل والأميز.
كاتب تشكيلي سوري