عادلي يقرأ السلطة والدين والعنف في تاريخ يوحنا بن سعيد الأنطاكي

كتاب أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد السياسي بالجامعة الأميركية يقدم قراءة تحليلية لتاريخ المؤرخ مبرزًا دوره كمصدر نادر لتاريخ العصر الفاطمي حيث يكشف التداخل العميق بين الدين والسياسة، وأثرهما في بنية السلطة والمجتمع في شرق البحر المتوسط.

تأتي فرادة هذا الكتاب "السلطة والدين والعنف: قراءة في تاريخ يوحنا (يحيى) بن سعيد الأنطاكي" لأستاذ العلوم السياسية والاقتصاد السياسي بالجامعة الأميركية بالقاهرة د.عمرو إسماعيل عادلي، من كونه يقدم رؤية تحليلية كاشفة لنص يعود لأكثر من ألف سنة كتبه يوحنا (أو أبو يحيي) بن سعيد الأنطاكي المتوفي (458هـ ـ 1066م) والذي كان بطريكا للإسكندارية منتميا لطائفة الملكيين أو الملكانيين المعروفين اليوم بالروم الأرثوذكس.

ووفقا لعدالي في كتابه الصادر عن دار صفصافة أخيرا "يٌعرف تاريخ الأنطاكي بـ"صلة تاريخ أوطيخا أو أوتيخا"، وأوتيخا هو بطريرك سابق لكنيسة الإسكندرية توفى قبل يحيى بن سعيد بنحو قرن من الزمان، وكان اسمه العربي سعيد بن بطريق بينما كان اسمه الإغريقي (أفتيشيوس) وتعريبه أوتيخا أو أوطيخا، ووضع تاريخا نٌسب إليه، وهو النص الذي يبدو أنه ترك أثرا على يحيى بن سعيد فقرر أن يضيف إليه فاعتبر "صلة" بمعنى وصلة أو كِمالة بلغة الكشري. ويذكر الأنطاكي صراحةً أن تاريخه إنما هو استكمال لتاريخ ابن بطريق.

ويرى عادلي أن تاريخ الأنطاكي يستمد أهميته من عدة عوامل لعل أهمها هو أن هذا هو النص الواحد الوحيد الذي وصل إلينا عن عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي، ومن عصره إذ أن النصوص الأخرى الواردة إلينا من العصر الفاطمي المبكر في مصر مثل الأمير المُسَّبحي وابن مٌيسَّر وابن زولاق كلها قد فٌقدت جزئيا أو كليا، أو لم تصل إلينا إلا من خلال اقتباسات في نصوص تاريخية لاحقة. وبالطبع فإن الحاكم بأمر الله قد احتل مكانةً مميزة في ذاكرة المصريين خاصة، وربما المسلمين عامة، نتيجة ما نٌسب إليه من سلوك عجيب يصل إلى درجة الشذوذ بتحريمه بعض الأكلات مثل الملوخية أو بمنعه النساء من الخروج ليلا أو بإفراطه في قتل رجال البلاط من قادة الجيش والوزراء والكتاب وغيرها من "الطرائف" الدموية التي يرد إلينا الكثير منها في نص الأنطاكي. ولكن لا يمثل هذا السبب الوحيد للأهمية الكبيرة لتاريخ الأنطاكي بل يٌضاف إليها أن ذلك العصر الذي رصده ودَوَّن له يحيى بن سعيد كان شديد الاضطراب في شرق البحر المتوسط، وأنه ازدحم بحركات دينية وتقلبات عسكرية وسياسية كما أنه كان ذروة قوة الخلافة الفاطمية سياسيا وعسكريا ودعويا. ففيه شٌيدت القاهرة، وفيه أصبحت مركزا هاما من مراكز الثقافة الإسلامية - التي بدأت شيعية إسماعيلية ثم تحولت إلى سنية في قرون لاحقة-. وضِف على هذا وذاك، أن نص الكتاب رصد لواحدة من أشد الفترات تقلبا للمسيحيين الشرقيين، وفي العلاقة بين الدول المسلمة في مصر وسوريا والعراق من جانب، والإمبراطورية البيزنطية -أو دولة الروم كما كان يسميها المسلمون - من جانب آخر.

ويشير إلى إن تركيز الأنطاكي انصب على تدوين الأحداث ذات المغزى السياسي أو العسكري، وكانت هذه تتصل عادةً مباشرة بالأسر الحاكمة وما يٌلحَق بها من مماليك وعبيد وحكام أقاليم ورؤساء للطوائف الدينية وزعماء للقبائل. ولكن في الخلفية تغادر الجمل والفقرات التي يكتبها الأنطاكي باحات قصور القاهرة وبغداد والقسطنطينية وساحات القتال إلى طرق التجارة وقوافل الحج وأعيان الإسكندرية وفقراء بغداد وعرب وادي النطرون وأديرته وأخبار المجاعة وانخفاض النيل وفيضان نهر دجلة وزلزال بالقسطنطينية وحلب. إن الأنطاكي لم يكتب تاريخا اجتماعيا أو ثقافيا لعصره، إذ أن هذه المفاهيم نفسها لم تكن موجودة في إدراك نخبة ذلك العصر لما هو التاريخ، والذي كان بالنسبة لهم تدوين وتسجيل للأحداث الهامة، والتي كانت تمس عادة إما الملوك والأمراء والأباطرة أو رؤساء الطوائف الدينية، باعتبارهم امتدادا لسلسلة الأنبياء والأولياء والقديسين والآباء الكهنة. ورغم هذا فإن ما يبدو في "الخلفية" من علاقات اجتماعية واقتصادية وترتيبات ومفاهيم للسلطة والقوة وأخلاق، والتي لا تعدو أن تكون تفاصيل على المسرح قبل أن يظهر عليه الأبطال المحوريون من ملوك وسلاطين وخلفاء وأمراء وبطاركة وفقهاء وقضاة وشيوخ قبائل، يمثل لنا نوعا ما من التأريخ الاجتماعي ـ ربما غير مقصود وربما غير مٌفَّكر فيه من جانب كاتبه- بل هو نافذة بالمعنى الحرفي على ذلك العالم البعيد زمانا القريب مكانا، كون شخوصه من الملوك والصعاليك قد عاشوا وماتوا وتقاتلوا وتزاوجوا وتاجروا تماما في نفس البقاع التي نعيش عليها ونمشي في مناكبها.

ويؤكد أن أشد ما يجذب القارئ في تاريخ الأنطاكي هو محورية كلٍ من السلطة والدين والعنف في تاريخ هذا الجزء من العالم قبل ألف سنة من اليوم: إذ يحدثنا الأنطاكي عن عالم مزدحم بالأديان والطوائف والمذاهب المتعايشة حينا والمتصارعة حينا آخر، فلا يكون حديث الأنطاكي مثلا عن "النصارى" كفئة واحدة إلا عندما يتناول تعامل السلطة المسلمة معهم، لكن على الأرض يكون حديثه طائفيا بما يعكس تنظيم المجتمع وقتها: ملكانية ويعقوبية ونسطورية، وداخل الطوائف يتناول التنوع المحلي بين كنائس الإسكندرية وأنطاكية والقدس والقسطنطينية، ونفس الحال مع المسلمين فأهل السنة بل ومذاهب فقهية بعينها من حنابلة وشوافع ومالكية في بعض الأحيان، غير الشيعة من الإسماعيلية والإثنا عشرية والزيدية وهم بالطبع غير الخوارج، والذين بدورهم إباضية وصٌفَّارية وأزارقة. وفي مقابل ذلك التعدد الديني والمذهبي الكبير يرصد الأنطاكي نظما سياسية بعضها محلي محدود بإقليم مثل الطولونيين أو الإخشيديين مصر أو بني بٌوَيه في العراق وغرب إيران وربما حتى بمدينة كحلب أو الموصل مثل بني حمدان، ولكنه يتناول أيضا بحديثه نظما سياسية أخرى ممتدة جغرافيا وزمنيا عادةً ما قامت على أساس ديني مٌعلن في تلك العصور كحال الخلافة العباسية ثم الفاطمية وكذلك الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي كان أهم ما ميَّزها أنها مسيحية أكثر منها رومانية أو يونانية. ولقد لعب الدين وربما حتى مذهب محدد داخله دوريَّن أساسييَّن في التنظيم السياسي وقتها: الأول هو حفظ التماسك الداخلي للنخبة الحاكمة، والثاني لكسب شرعية لها بين رعاياها أو بين مجموعات محددة بينهم على أساس إنها تمثلهم وتخدم مصالحهم وتجسد تفوقهم وتسيدهم على غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، ومن خلال هذا كان الدين بابا رئيسيا للتعبير عن شتى مظاهر القوة والسطوة، وبالتالي محلا للتراكم العام كما نشاهده في الجوامع الكبيرة في عهد النظم الإسلامية المتعاقبة، والكاتدرائيات والأديرة وربما الأضرحة الخاصة بالقديسين والأولياء في السياقات المسيحية والإسلامية على التوالي. في الحالة الفاطمية كان المذهب الإسماعيلي يدور حول أحقية فرع مٌعَّين من آل البيت الحٌسيني (أبناء إسماعيل بن جعفر الصادق) في إمامة المسلمين، وكان الإمام المعصوم يتمتع بسلطة ثيوقراطية تقوم في الأساس على تمتعه بسلطة النبي (ولكن بلا وحي إنما بالوراثة)، وبين سلطته كخليفة للمسلمين عامةً.

ويرى عادلي أن ما يميز عصر الأنطاكي، خاصة في حوض البحر المتوسط وصولا إلى الهضبة الإيرانية ووسط آسيا، هو أن المشروعات السياسية قد تداخلت تداخلا عميقا ومعقدا مع مشروعيِّ الدينيين التوحيديين الكبٌريين: المسيحية والإسلام. وقد خلق حضور الأديان التوحيدية التبشيرية أو الدعوية أرضية للتماهي أو على الأقل التفاعل بين الحكام والمحكومين لم تكن بالضرورة حاضرة في مشروعات إمبراطورية سابقة كالإمبراطورية الرومانية قبل التحول للمسيحية أو ما سبقها من مشروعات إمبراطورية بابلية أو آشورية أو فارسية. لقد أسس "الدين" بالمفهوم الإبراهيمي سواء المسيحي أو الإسلامي داخل كل كيان سياسي أساسا لإدعاء الشرعية للحكام، ولذا كان أحد أهم أوجه التراكم مُمثلا في أماكن العبادة من كنائس ومساجد، ولكن كذلك في حضور طبقة من رجال الدين تتميز عن الحكام سواء انتظمت في شكل كنسي في الكيانات المسيحية (بتنويعاتها المذهبية) أو في صورة شبكات العلماء والمؤسسات الناتجة عنها كالمدارس والكتاتيب والحلقات وغيرها في السياق الإسلامي (مرة أخرى بتنويعاته المذهبية بين السنة والشيعة بفرقهم وغيرهما). إذن كان الدين والسياسة كمجاليَّن للتفاعل الاجتماعي متداخلين أشد التداخل، ومعتمدين على بعضهما البعض كثيرا لكن لا يعني هذا أنهما كانا المجال نفسه إذ استمر التمايز بين الاثنين على النحو الذي يتجلى لنا في وجود طبقة دينية مقابل الطبقة الحاكمة، حتى في أشد النظم الثيوقراطية – أي عندما يحكم رجال الدين- كحال الدولة الفاطمية كان جهاز الدعوة بدعاته وفلاسفته ومتكلميه هم المسئولين عن إنتاج المعرفة الدينية مع استثناءات قليلة جدا عندما خليفة كالمعز لدين الله ناشطا في الإنتاج المعرفي، أما في الخلافة العباسية فقد كان التمايز بين الخلفاء كحكام من جهة والفقهاء والمتكلمين من جهة أخرى وضوحا، وكذا الحال في السياقات المسيحية الشرقية والغربية. لقد كان ذلك التمايز بين الديني والسياسي، والتداخل في ذات الوقت مصدرا مستمرا للتوتر بين وداخل المشروعات السياسية ذات الطابع الديني بما عمل كمحرك للتغيير والتحول على المستويات السياسية والثقافية.

ويلاحظ عادلي في نص الأنطاكي ضمن مصادر تاريخية أخرى، أن قبول التعدد الديني بصورة مؤسسية (رغم أن هذا كثيرا ما أتى مع علاقات إخضاع) كان أسهل من قبول التعدد المذهبي داخل الدين الواحد، خاصة إذا كان أصحاب ذلك الدين هم أصحاب السلطة الحاكمة. ففي المجتمعات المسلمة، كان لغير المسلمين مواقعهم بحكم القانون وترتيبات تضمن لهم الحماية والحرية الدينية والتنظيم الذاتي ضمن قيود، بينما لم تكن هناك أي أطر تحكم التعدد المذهبي بين المسلمين خاصة في مسائل العقيدة والعبادة، وسيكون هذا أشد وطأة في حضور مشروعات مذهبية متنافسة كتلك التي كانت قائمة بين العباسيين والفاطميين في فترة حياة الأنطاكي، والتي أنتجت حركات دينية عدة لها مشروعات سياسية متصارعة. وفي سياق دولة الروم، كانت الخلافات المذهبية بين المسيحيين أشد عنفا واستدعاءً لقمع السلطات بالنظر إلى حضور بنية كنسية تقوم على وحدة العقيدة والطقس، وتمد السلطة السياسية بالإيمان الصحيح في السياق المسيحي الشرقي (وتغلب على السلطة السياسية في السياق المسيحي الغربي في زمن البابوات الأقوياء).

ويوضح أنه في السياق الإسلامي، كان غير المسلمين من المسيحيين واليهود (وقد أضيف إليهم الزرادشتيون والمندائيون والهندوس في سياقات أخرى) يحظون بوضع الذمية القانوني الذي أسست له الشريعة الإسلامية، والتي كانت تفترض بناءً هرميا يضع غير المسلمين دون المسلمين في علاقتهم بالسلطة، وبالتالي رغم أنه كان ترتيبا يضمن قدرا هاما من التعايش العام على النحو الذي مكَّن من التعدد الديني مكَّن من استمرار العديد من الطوائف المسيحية واليهودية إلى العصر الحديث، إلا أنه لم يكن قائما على مبادئ حداثية مثل المواطنة والمساواة القانونية. وقد كان هذا هو الظرف السائد في كثير من الأحيان مع وجود استثناءات مثل تلك التي رصدها الأنطاكي في كتابه في زمن الحاكم بأمر الله الذي لم يشهد فحسب اضطهادا مارسته السلطة الفاطمية على رعايا من المسيحيين (وبدرجة أقل اليهود)، إنما كانت هناك ضغوط (ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام) تمارسها السلطة من أجل إجبار بعضهم على التحول دينيا، وهو ما يزيد من قيمة تاريخ الأنطاكي رغم أنه في الأغلب يرصد فترة استثنائية في العلاقات بين الأديان.