عبدالحميد الديب والدرس العلمي

حياة الراحل كشاعر متصعلك وحر وإدمانه وقضيته الشهيرة مع الجريدة صارت درسا علميا لتأثير اللغة وخطرها على الوعي.

عبدالحميد الديب (1898/1943) شاعر مصري حديث ولد بقرية كمشيش الفقيرة لأب كان يمتهن الجزارة ولكنه كان يحلم بأن يتعلم ولده في الأزهر ويصير شيخا أزهريا له حلقة يحف به طلبته شأن الأزهريين عامة في ذلك الوقت من الشيوخ والمريدين.

بعد نهاية مرحلة التعلم الأولى أرسله والده إلى القاهرة ليتعلم في الأزهر راغبا في نيله قسطا من العلم ليغدو شيخا أزهريا ويفتخر به والده في كمشيش المنسية الفقيرة ولذا كان يتحمل نفقات تعلمه بعزم وإصرار أملا في هذا اليوم الموعود وهي نفقات الكساء والطعام والمأوى التي تتيح له الانصراف فقط إلى طلب العلم والبروز فيه.

لكن الديب منذ طفولته مال إلى اللغة والأدب والفن عامة فقد كان يمتلك مؤهلات تؤهله لأن يكون شاعرا مستقبلا ،غنى المخلية والاستعداد الفطري وامتلاك الأداة اللغة التي نماها بمطالعة دواوين الشعراء الكبار وكتب التراث الأدبي وظهر ذلك كله في متانة لغته وانسيابية شعريته وثراء قاموسه اللغوي.

في القاهرة سرعان ما مل الطالب حياة الأزهر ونمط معيشة الأزهريين التي وصفها بإسهاب طه حسين في الأيام بدقة عجيبة وتصوير فني بديع فالدروس تنطلق من بعد صلاة الفجر بدراسة متن من المتون وقراءة الشروح والحواشي والتعليقات على شيخ من شيوخ الحلقة  في الفقه أو الأصول أو التفسير أو علوم اللغة معظم النهار ولا ينصرف الطلبة إلا وقت تناول  الطعام والاستراحة قليلا لتنطلق الدروس بعد الظهر وقد كانوا يسكنون في الحي الأزهري العريق في غرف فقيرة مكتفين بالنزر من الطعام والحياة يسلون أنفسهم بنيل العالمية والتخرج من الأزهر لنيل منصب القاضي الشرعي أو المعلم  في الأزهر نفسه.

مل الديب ذلك كله وما آنس من نفسه ميلا إلى طلب علم الأزهر ولا مخالطة طلبته ولا التعلق بشيوخه فهو يميل إلى اللهو والمتعة والانطلاق والحرية وحب المغامرة ومطالعة الآثار الأدبية التي يعجب بها ويتذوقها  لخلق الجو الذي يبعث فيه الطاقة على الإبداع، يخلص في قراءة الشعر ويتحرى الصدق الفني والحياتي ويحرص على فردانيته وإنيته وهي دعائم الإبداع الشعري غير مبال بما يريده الآخرون منه ولا هو رهن طلباتهم وأولهم أسرته ثم محيطه ثانيا وقد انتهى إلى علمه مكانة الشعراء كالبارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ ،فلم لا يصير شاعرا فذا مثلهم ويحقق شهرة وسمعة تتيح له بعد ذلك التفرغ لمتعه والحياة على الطريقة التي يرضاها بكل أريحية؟

ترك الديب الدراسة دون أن يخبر أهله وكان يزيف الحقائق في رسائله إلى أهله مستزيدا من المال وكان أهله  طوع طلباته حتى علموا بأمره فتركته العائلة وقطعت عنه المعونة بعد أن علم والده أن ابنه يعيش بويهيميا منصرفا إلى المنتديات الأدبية ليلا أو إلى الملاهي وعالم العوالم من مغنيات وراقصات في عوامات النيل نائما طول نهاره مستيقظا كل ليله إلى الفجر.

اكتشف القادم من الريف المحروم والمحافظ، الفقير والمهمش عالم القاهرة قاهرة الأضواء والسهر وقاهرة المرأة ملهمة ومثيرة مغنية أو راقصة أو عشيقة كما أولع بالموسيقى  وكل ذلك الجو وفر له مصادر إلهام وأتاح له حرية في القول وانطلاقا لا حدود له.

يقضي الديب نهاره نائما وليله مستيقظا متنقلا بين  المقاهي ودور اللهو والطرب كاتبا قصيدة  تارة ومعربدا تارة أخرى فالسكر كما نص وليم جيمس يساعد على التركيز الداخلي ويوفر طاقات حية ويشل الديدان الماصة للحيوية.

كانت قصائده  الأولى ملفتة إلى عبقريته وتمكنه من القول الشعري، حرة منطلقة فالشعر للشعر وصورة لحياة صاحبه ومرآة لنفسه وتهافتت الصحف الأدبية على نشر قصائده مقابل أجر زهيد إمعانا في استغلال شعره وعبقريته وكان الديب يقبل بذلك فهو لا يطلب إلا أجرا مقابل المأوى والطعام والشراب.

وسعد بلقاء سيد درويش الذي أعجب بشعره وقرر احتضانه ونقله إلى بيته ينعم بالوفرة في الطعام والسكن الباذخ والشراب الفاخر وما فعل سيد درويش ذلك إلا إعجابا بعبقرية الديب وأملا في الحصول على قصائد منه تصلح للتلحين والغناء لكن سيد درويش عاجلته منيته فانقطع عن الديب السند فأجبر على حياة الصعلكة والتشرد والنوم في المقاهي وفي المساجد وعلى الأرصفة فكان واحدا من شعراء الصعلكة في القرن العشرين وقست الظروف عليه فامتلأت نفسه حقدا على الأغنياء وإحساسا بالظلم الطبقي والجبر السياسي وعلى مبدأ الحياة ذاتها في تدمير المفكر والشاعر والعبقري مقابل الاحتفاء بالبليد والمنافق وعديم الحس وفي ديوانه الشعري كثير جدا من قصائد السباب والشتيمة التي تجاوزت فن الهجاء كما نعرفه.

خشنت طباعه وعرفت عنه الفظاظة والعنف اللفظي والبدني أحيانا بسبب عمق المأساة في داخله واستغلال الناس له وجعله مادة للسخرية والفكاهة من نمط لباسه ومعيشته ولكنهم في ذات الوقت يقدرون في شعره فرادة وإبداعا واستغلته الصحف الأدبية كثيرا بل كان من يشتري منه القصائد وينشرها باسمه وزاد الطين بلة استسلام الديب للشرب والإفراط فيه ثم تعاطي الأفيون لنسيان جراحه وواقعه المر وانقطاعه عن أسرته وموقف الناس منه الساخر وكانت إحدى الصحف قد اتفقت معه على نشر قصيدة له كل أسبوع مقابل الأفيون ورحب الديب بالفكرة ونشر كثيرا من شعره  لقاء هذا  المقابل العجيب لكن غلاء سعر الأفيون جعل الصحيفة لا تستطيع تلبية طلبه  فاحتالت عليه بتقديم مسحوق غذائي على أنه أفيون وانطلت الحيلة على الشاعر المسكين والغريب في القصة أن الديب كان يغيب عن الوعي لاعتقاده أنه يتناول  أفيونا، لكنه لما علم بالأمرعنف رئيس التحرير ولم يسلم من قبضة يده وشتائمه وانقطع عن النشر عائدا إلى الجوع والصعلكة والتشرد والنوم في كل مكان حتى توفي وحيدا  تاركا ديوانه الشعري الذي هو مرآة نفسه وصورة صادقة عن تقلب حياته ومرارة الهزيمة وفداحة الخسارة وعمق الجرح.

هذه هي قصة الشاعر المسكين الصعلوك عبدالحميد الديب الذي حلم والده بأن يكون شيخا أزهريا  يفتخر به في قريته كمشيش وقد آثر حياة الانطلاق والمتعة والحرية على صرامة المتون واستفاضة الشروح والحواشي والتعليقات وحياة المحافظة مقابل الإخلاص لقضية القول الشعري الذي تفوق فيه بشاهدة ناقد كبير هو العقاد لكن نمط حياته قضى عليه باكرا وأعطبه.

حكاية الديب مع الجريدة وتعاطيه المسحوق الغذائي على أنه أفيون لاعتقاده في ذلك وغيابه عن الوعي تفتح بصائرنا وتنير عقولنا على حقيقة علمية وهي هيمنة اللغة علينا وأنها تبرمج الوعي وتهيمن عليه فالألفاظ لها القدرة البالغة على الإيحاء والتأثير وضبط السلوك والسيطرة على الوجدان ومن زمن انتهى العلماء إلى حقيقة مفادها أن المعرفة تثبت باللغة وتنسخ بها.

ومن هذه الألفاظ التي تشبه في خطورتها مسحوق  الديب الغذائي أو غبرته ألفاظ على شاكلة عالم ،علامة ، دكتور، بروفيسور، الحزب العتيد، فخامة الرئيس ،هيئة  كبار العلماء ،الأشراف  حجة الزمان، ولي الله، قدس الله سره ، جمعية العلماء  إلى غير ذلك وخطورتها  في برمجة الوعي وضبط السلوك  أننا لا نكلف أنفسنا عناء البحث في واقعيتها وفي مردودها الفكري والحضاري والعلمي ويجعلنا نسارع إلى الإذعان وترديد ما يقال وترويجه بدون قصد منا بلا تأمل في رصيد هذه الألفاظ من الحقيقة العلمية  فالألفاظ عندنا لا تدل على مدلول واحد فتداول هذا الألفاظ برصيد مختلف من الواقعية والدلالة يجعل حابل تواصلنا اللغوي يختلط بنابله وكلمة عالم وعلم خير شاهد على ذلك فهي تطلق على من يبحث في العلم التطبيقي والطبيعي كما تطلق على من يبحث في الدين ولو كان متواضع الخبرة قليل البضاعة في العلم الحقيقي ولكن يؤثر في المجتمع لامتلاكه رأسمالا رمزيا من جهة وعدم اتفاق الناس على مدلول هذه الألفاظ دلالة دقيقة بل مجرد التسليم الأعمى والتقليد المتوارث وقد أشار محمد أركون مثلا إلى ذلك وعلل كتاباته بالفرنسية بسبب الفراغات المفهومية وعدم دلالة الألفاظ العربية على مدلول واحد دقيق كما في اللغات الأخرى وليس هذا لعيب في العربية بل عيب في نمط الثقافة السائد عندنا التي جعلت لغتنا هوامات واستيهامات وهلاميات  لا تدل على مدلولات محددة.

ولأن الحديث ذو شجون والشيء بالشيء يذكرن تجرنا شكلانية الثقافة العربية إلى الحديث عن ولعنا بالألقاب وتسلمينا بها دون البحث في مردوها وعطائها الحقيقي العلمي والفكري والديني فلا نتحدث عن الأكاديمية إلا ونصر على ألقاب  الدكتور والبروفسور وعميد الدكاترة ونكرر الأمر بشكل ملفت ويستعذب المجتمع هذه اللعبة فيكررها باعتباطية دون البحث عن مضمونها وجدواها فلغة  الألقاب أورثتنا فقرا معرفيا وفراغا مفهوميا  في الدين وفي العلم  وفي السياسة وفي الاقتصاد وغدت هذه الألفاظ آو الألقاب شديدة المفعول مثل مسحوق عبدالحميد الديب وغبرته وأفيونه وللمبدع ياسر العظمة حلقة من حلقات مرايا عالج فيها هذه القضية بعمق مطعم بمرارة السخرية.

تقدم إلينا الثقافة الغربية أسماء لامعة مثل أينشتين وماري كوري وميشيل فوكو وجون بول سارتر عارية بلا لقب علمي وهي أسماء ثقيلة في دنيا العلم بينما عندنا لا نسلم من الجعجعة اللفظية وتكرار الألقاب بشكل مبالغ فيه ومرضي وكأننا أصبنا بوسواس الألقاب العلمية ,ولا يعني هذه النيل من الأكاديمية ولا الاعتراض عليها  ولا منزلة الناس وأقدار العلماء ولكنه نقد الشكلانية وانخراطنا في لعبة الألقاب هذه مع أن واقعنا يعكس مأساتنا سياسيا وفكريا وعلميا ودينيا وحضاريا فنحن أمة مهزومة أعلنت إفلاسها منذ زمن ولم تعد تعطي للعالم جديدا في عالم الفكر والعلم.

ويمكن إن نلحظ هذا التأثير مثلا في مناظرة تلفزيونية مثلا بين من يحمل لقب دكتور أو خريج الأزهر آو الزيتونة أو لقب عالم على التمثيل لا الحصر فنجد الجماهير تنساق إلى بريق الألفاظ وتنحاز إلى من يتحلى بهذه الألفاظ لأن لها مفعولا أشبه بغبرة الديب وتحمل على الأعزل أو الذي لا يهتم كثرا للشكل بقدر ما يحرص على المضمون أو كان يمتلك فكرا علميا حقيقيا ولكنها كيمياء الألفاظ وجاذبيتها الساحرة وهي تمارس فعلها في الاستلاب وتزييف الوعي الجماهيري.

أجرى العلماء في أميركا تجربتين للتدليل على قوة الألفاظ وشلها للوعي وللإرادة الإنسانية فقد كلف أستاذ في الجامعة ثلاث مجموعات من الطلاب بإجراء حوار صحفي مع الرئيس والوزير وشخصية إعلامية ورياضية من المشاهير وقال للمجموعة الأولى إن ذلك مستحيل تقريبا في حين قيل للثانية إنه  صعب ولكنه ممكن وللثالثة هو  سهل وميسور فكانت النتيجة  أن فشلت الأولى تماما وقليلا الثانية ونجحت تماما الثالثة التي لم تشل إرادتها اللغة ولم تبرمج ووعيها الألفاظ .

وفي تجربة ثانية قدم أستاذ لطلابه مسألة رياضية من أجل حلها وأخبرهم أن حلها يكاد يكون مستحيلا ونجح طالب وصل متأخرا في حل المسألة لأنه لم يسمع جملة "يكاد يكون مستحيلا) فكان وعيه سليما وإرادته حرة غير خاضعة لجبروت اللغة.

حياة الديب كشاعر متصعلك وحر وإدمانه وقضيته الشهيرة مع الجريدة صارت درسا علميا لتأثير اللغة وخطرها على الوعي فهي سلاح ذو حدين فهي حاملة الوعي وأداة التواصل بقدر ما هي آلة إخضاع وهيمنة تبرمج الوعي والسلوك وتشل الإرادة إخضاعا واستلابا وسلبا للحرية والاستقلالية فكثير من المواقف اللغوية شبيهة   تماما بحالة الديب يغيب عن الوعي وهو يستهلك مسحوقا غذائيا معتقدا أنه أفيون.