عبدالرحمن مهنا من الأفق إلى الصدى

الطريق الذي سار فيه الفنان السوري لا يمكن أن يصل مغايراً ومتمايزاً إذا لم يكن زاده جرعات زائدة من الرفض والتمرد والجرأة.
ثروة مهنا الفنية نهبت من متحفه في مخيم اليرموك على يد خفافيش النهار
مهنا قادر على الخلق من جديد وبغزارة ملفتة 

"رفضت من طفولتي أشياء كثيرة من معتقدات محيطي الذي أعيش فيه حتى النزق والصراخ أو البكاء أحياناً، هذا الشيء دفعني إلى الرسم والتعبير عما أختزنه في ذاكرتي، وغالباً ما أندفع بقوة عندما لا أجد أحداً يسمعني. الرسم في عالمي ردة فعل جريئة إعترضت بها واقعاً مريراً عشته وكنت رافضاً للعديد من قضاياه".
حين يقول التشكيلي عبدالرحمن مهنا (حلب 1950) هذا الكلام الذي يختزل الكثير من إحداثيات ولادته فنياً، والكثير من مقاربات رؤيته ورهافاتها الجمالية، فهو على دراية تامة بأن هذا الطريق الذي سار فيه لا يمكن أن يصل مغايراً ومتمايزاً إذا لم يكن زاده جرعات زائدة من الرفض والتمرد والجرأة، فروح التغاير تسكنه، وروح التمرد لا تغادره، ونبضة الرفض تنبض فيه، والجرأة عنوان حكايته، وفي هكذا حال غالباً ما يقول الفنان كلمته التي كان يحلم في قولها، فكيف إذا كان هذا الفنان يمتلك أدواته الفنية والذاتية، ويمتلك مناهجه بالإستناد على ثقافة عميقة، فلا يمكن إغفال اسم مهنا في أي حديث عن المحترف التشكيلي السوري، فلم يعصف به الإستسهال الذي أصاب الكثير من الأسماء المهمة، بل بقي من الأسماء الإستثنائية الجادة والمتعمقة في هذا المحترف، فهو الدارس لعلم الجمال وتاريخ الفن بعمق زائد ومؤثر وفاعل، ويملك من خبرة تمتد لنصف قرن وأكثر، فمنذ ذلك وهو منهمك في طرح عناوين لمشروع إشتغل عليه بنظرة معمقة، وبوعي معرفي منعته من من الإنزلاق في السبات المنهك للروح، السبات الذي لا يمكن أن يستيقظ منه كل من اقترب منها، من سورها وأسرارها.

نعم يرسم مهنا نفسه ليقول للآخرين أنا موجود، هذا ما قاله هو على نحو مباشر، يرسم الأنهار التي تتدفق منه بغزارة شديدة ويعلن عذوبتها، كما يرسم الحقول التي تتدفق عليها تلك الأنهار حتى تتبدد منها الكثير من الإلتباسات على غرار ما تفعله الريح بها، وهذا ما يوحي بتشبثه بخصوصيته وما يلائم أنماطه الجمالية، فهو من جانب ما يحتفي بالذات وبجماليات الإنسان، كما يحتفي بالحياة وفق إيقاع متعدد تثير حركته نحو الصعود، وتعبر عن مكنوناته في صيغتها الجديدة، ومن جانب آخر فهو مهتم بمناطق العبور الواسعة إلى حد التنوع المرغوب، ما يقتضي منه وبموجب خبرته الشخصية الطويلة وتحت شروط غير مثيرة للشك كوفرة بعض التفاصيل عن حركاته، وكإعادة اكتشاف لمبادرات جديدة تدمج تجاربه الشخصية / الفنية بعضها ببعض، ما يقتضي منه اليقظة حين يوسع المجال قليلاً، حين يركز في تطور أساليبه وهذا ما يسهل عملية ولادة مشروعه ولادة طبيعية معافى وبصحة جيدة، وبلغة تعبيرية هي الأكثر فاعلية في الزمن ومسافاته.
فلا غنى له عن هذه التعبيرية المهنانية (نسبة إليه) المتبلورة على التكاثر القيمي / المعرفي / الجمالي، وبأسس حديثة، ما يعزز منجزه بما هو ممكن من إستخلاصات حاملة لنزعات إنسانية محفورة في الأمس العميق، وما يقوي ذلك تخلصه من وطأة الوضوح والمباشرة، والسعي نحو إستحواز رموز تكاد تشكل ثيمته، وبالتوازن مع الإقتراب من إشتقاقات فيها يستبدل الواقع المتجهم بالمتخيّل، والأفق بالصدى، فأغلب إنتاجاته تنبض بإستعادة الكينونة المغيبة، أو على الأقل يستحضر بها صخب التحولات بالإكتفاء الذاتي / الجواني، ولذلك يمكن اعتباره خير من ذهب إلى سَوْق تساؤلات تحفر في الروح، الإجابة عنها، أو محاولة الإجابة عن بعضها سيوغله ونحن معه في إنتاج خطاب جمالي مهناني وتعزيزه على إمتداد إرتقاءاته، وكشكل للإلحاح على التوكيد على ذلك ذلك النماء الواعي في حضور فكر فلسفي مصاغ باللون والخط راصداً بهما المحطات المتراكمة في زمنه غير المحدود، يغني بهما العقود التي تنفست به، وبتلك الوجوه الحالكة، المتعبة، والحاملة لكل إشكاليات الطريق، والتي تطل من منجزه على نحو كثيف وعلى نحو تستدعي الذهول والإدهاش.
عبدالرحمن مهنا رغم دراسته الأكاديمية فهو من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1983 إلا أنه بقي يحمل عفويته وينهل الفطرية من والدته الفنانة عائشة عجم مهنا والتي رسمت أولى لوحاتها وهي في الخامسة والثمانين من عمرها. أقول رغم دراسته الأكاديمية إلا أنه على يقين بأن الأكاديميات قد تخلق رساماً لكن لا تخلق فناناً، ولهذا لم يتقيد مهنا بالحدود ولا بالمدارس ولا بالنقل، وحدها أحاسيسه وهي تمتطي أجنحة خياله تقوده من حالة إلى أخرى، من محاكاة الأبيض والأسود وتلاوتها إلى محاكاة الألوان بجمال تعبيريتها، وبين التلاوة والتعبير تلد جملة جماليات بقيمها الإبداعية التي تقارب الأجنحة بأثر خيالاتها، وبحساسيتها الرهيفة التي عليها تؤول خطابه الحامل لميزات سردية تخوله إعتبارها عهد جديد أو نمط جديد لتعبيرية فيها من البلاغة الجمالية بقدر ما فيها من صياغات رمزية تعزز مساهمته في تفصيلها على حبال النضج وإستقلالها، وهنا ينهض عدم إيلائه أهمية لمسألة الإقتراب من النمذجة التي يعتبرها تعليمية، وتزيد من وطأة الرتابة، على حين يلح على المقياس الداخلي وإيقاعاته، ويشغله صوت المبدع الضمني، بعلائقه المعتمدة على الوافد من المستويات المجتمعية أولاً، ثم من الموروث بصفتها الزمنية التاريخية ثانياً، وهذا ما منحته فاعلية غير مرهونة بظرفية زمكانية، فاعلية ترسخ خصوصيته، مقابل تقديمه مقولة لا تغفل العامل الذاتي لديه مهما كانت متغيرات الواقع ومعطياته. 

إذا كان مهنا قد بدأ مع التصوير الضوئي وفن الغرافيك، وله تجربة طويلة مع الموتيف سواء أكانت في الصحافة إذ عمل لسنوات في صحيفة تشرين، أو في مطبوعات أدبية مختلفة، كأن كل ذلك كان تمهيداً لخوض بحار اللون بثراء وتنوع، فمن واقعية "لوحة الفانوس" أذهلت الكبار قبل العامة، إلى تجربة مفتوحة على دوائرها الدلالية يجتاح مهنا العتبات والمتن معاً، فإشتغل على الطبيعة والإنسان والأمكنة، ومعها جميعاً ذاكرتها التي باتت ذاكرته هو، فدمشق القديمة بحاراتها وأزقتها وعبق ياسمينها باتت مرادفة لإسم عبدالرحمن مهنا، كل منهما مرآة الآخر، وحامل للآخر، وهنا سيلاحظ المتلقي درجة التجاذب بينهما، أو الذوبان أقصد بينه، وبين بيوتات دمشق القديمة دون أية إسقاطات أو رتوش.
مهنا من الأسماء المهمة في المحترف السوري والذي سيفعل فعله فيه لزمن غير قليل، وهو المرتكن إلى الأسلوب المؤثر في إستدعاء مقولاته المقترنة بالإرتفاء إلى زمنية مشتركة، بكثافاتها وتعالقاتها.
من المحزن أن نقول بأن ثروة مهنا الفنية والتي هي ثروتنا كانت قد نهبت من متحفه في مخيم اليرموك على يد خفافيش النهار والتي تجاوزت ستمائة عمل وهو رقم غير قليل وإن كانت ثقتنا بفناننا كبيرة وبأنه قادر على الخلق من جديد وبغزارة ملفتة طالما جينات مورثاته مازالت حاملة لقيم معرفية، جمالية، إنسانية، والتي تسهم في صنع فضاءاته وديمومتها.