عبدالقادر الرباعي ينتقد أفكار ياروسلاف ستتكيفتش الاستشراقية المثيرة
يتابع هذا الكتاب الاستشراق عامة وكتاب ياروسلاف ستتكيفتش "محمد والغصن الذهبي خاصة".
لقد اهتم الاستشراق بشؤون الشرق وحضارته وثقافته، وقد قام بهذه المهمة علماء من الغرب، فبذلوا في ذلك جهوداً جبارة مشهودة لا تنكر في تراثنا العريق. لقد كشفوا الغطاء عن مخطوطات آدابنا وعلومنا، ونشروا أكثر ما تركته ثقافتنا وحضارتنا في امتداد مسيرتها المتفوقة على ثقافات الأمم الأخرى وحضارتها آنذاك.
لقد سعى علماء الاستشراق لدراسة أثار الشرق بشكل عام لأهداف خاصة بهم، والتي يمكن أن تحصر في توجيه الدراسة الشمولية وتطبيق المناهج العلمية التقليدية من أجل الهيمنة على الشرق واستعماره، والإفادة من كنوزه وثرواته الهائلة فوق الأرض وباطن الأرض، وكذلك الحد من نشاطه العلمي والمعرفي، ليظل مسوداً ومقيداً بإرادة الآخرين.
إن هذا الكتاب الجديد للدكتور الناقد عبدالقادر الرباعي "من الاستشراق إلى الاستغراب – تفكيك كتاب محمد والغصن الذهبي" خصصه لدراسة آراء المستشرق البروفيسور ياروسلاف ستتكيفتش وهو عالم معروف للنخبة البحثية العربية في جامعاتها الكبرى. وكانت زوجته البروفيسورة سوزان ترافقه أحياناً. إنهما صديقان، ولديه بحوث وكتب مهداة إلى د. الرباعي بخطيهما، وقد كتب عن بحوثهما سابقاً فمدح بعض ما قرأه وأفاد منه، ونقد بعض ما لم يتفق معه.
لكن هذا نفسه هو الذي دفعه إلى متابعة أعمالهما، وعندما لم تحتاج المسألة نقاشاً مع أي منهما لم يتردد في مراجعتها، والتنبيه على ما رآه خروجاً عن المنهج المحكم الذي ألفه عند كل منهما. وإنه يعرف مسبقاً أن ذلك أمر يقتضيه المنهج العلمي الصارم المعهود لدى كل من يعمل في هذا الحقل العلمي، بقطع النظر عن العلاقات الشخصية. يقول هذا وهو مقدم على محاورة علمية صارمة عتيدة مع البروفيسور ياروسلاف.
لقد حاول الدكتور الرباعي في كتابه هذا أن يطبق المعيار الذي أشار إليه حسن حنفي حين دعا في كتابه الشهير "مقدمة في علم الاستغراب" المفكرين العرب إلى أن يقرؤوا الغرب مثلما قرأنا الغرب، مختصراً ذلك بوضعه "علم الاستغراب" مقابل "الاستشراق"، متبنياً مصطلح "نقد النقد" من أجل بيان دوافع هذا العلم، والرد على المركزية الاستشراقية المغالية، وضرورة التحول من النقل إلى الإبداع، ثم بيان نتائج العلم المتوقعة، وكذلك تحديد جذوره التاريخية، ووصف الحالة الراهنة... وأخيراً الرد مسبقاً على بعض الشبهات. ومن هنا أتى كتاب الرباعي هذا، ففي كتاب ياروسلاف المذكور يستعيد قصة ثمود، مجموعة من الأفكار الاستشراقية المثيرة التي تستحق وقفات نقدية صريحة وهادفة في آن.
لقد ترجم الأستاذ سعيد الغانمي الكتاب بحذر شديد كما يبدو، فترجمه إلى عنوان آخر: "العرب والغصن الذهبي: إعادة ترميم الأسطورة العربية"، ونشر تلك الترجمة المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء 2005، إلا أن ياروسلاف ستتكيفتش لم تعجبه ترجمة الأستاذ الغانمي، وأعلن رفضه في كلمة افتتح بها الكتاب؛ مصراً على العنوان "محمد والغصن الذهبي: إعادة ترميم الأسطورة العربية".
إن الكتاب مليء بالأفكار الاستشراقية المنحرفة عن جادة الصواب التي وضعها ستتكيفتش بحنكة شديدة، مستخدماً فيها براعته في البحث العلمي المستند إلى مصادر عربية قديمة وأجنبية أساسية، لذا فهو بحاجة إلى محاورات صريحة حذرة، ووقفات حرجة مستبطنة، للوصول إلى منطق في القول، ووضوح للرؤية. وعلى أية حال فإن العامل المهيمن على كل تلك التشابكات المفصلية إن جاز التعبير، إنما هو العلم المستنير الذاهب إلى بلورة الحقيقة المعرفية وحدها من خلال مرجعياتها الصحيحة الموثقة والموثوقة في آن.
لقد افترض ستتكيفتش أن غزوة تبوك مفتعلة، وأن الرسول الكريم كان بحاجة إليها لكي يستعيد نبوته، بعد أن واجه ثورة داخلية، متخذاً؛ أي المستشرق، من المخلفين قوة كبرى وسلطانا رهيباً زعزع كيان الأمة الإسلامية آنذاك، لكننا نعلم أنهم قلة، وهم مذكورون في القرآن الكريم، وقد اعتذروا للرسول عن تخلفهم لأسباب هم أعلم بها.
قاطعهم المسلمون، لكن الله عفا عنهم في النهاية، إنه يعلم ذلك كله، لكن تجاهله شكل من الحدث ثورة كبرى زعزعت – حسب زعمه – ثقة الرسول. لقد اعتمد على حديث غير صحيح البتة، كما ذكرت المصادر المعتمدة. لكنه افترض افتراضات غير علمية من أجل الوصول إلى مبتغاه المنحاز عن جادة الحق، قاصداً تشويه صورة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى أن وصفه بالإمبراطور حيناً، وبملك الكهنوت حيناً.
كما طعن في نبوته ونبوة النبي صالح عليهما السلام. أما ثمود فقد شكك في أن دمارها عقاب إلهي أصاب أهلها نتيجة كفرهم، وتكذيبهم النبي صالح عليه السلام. وقد أصر بدلاً من كل ذلك على أن الدمار قد وقع نتيجة زلزال طبيعي. ناسجاً قصة دنيوية رعوية أساسها صراع على المياه، وبطلها قدار عاقر الناقة، ومجموعة من النسوة في جانب، وصالح مع جماعة في جانب آخر. أما الناقة فهي – حسب اعتقاده – رمز طوطمي أسطوري.
هذه القصة اخترعها هو وسماها الأسطورة العربية المرممة، وقد انهال على فريزر صاحب كتاب "الغصن الذهبي" تقريعاً، لأنه في كتابه الشامل لم يسجل هذه الأسطورة العربية ضمن أساطير العالم، والهدف الحقيقي من ذلك هو استخدامه هذه الأسطورة المفتعلة غواية يغوي بها الإنسان العربي كي يتغنى بها، وينسى لأجلها الرواية القرآنية عن ثمود. وقد آمن بعض العرب بما رسمه لهم حقاً؟!. ولعمري إن هذا كان مقصده من ملحق العنوان: "ترميم الأسطورة العربية".
هذا هو الكتاب الثاني الذي عُني به الدكتور الرباعي في حقل علمي حيوي هو "الاستشراق". أما الكتاب الأول فكان ذا نظرة شمولية حول الجهود الاستشراقية في قراءة الشعر العربي القديم، مع اهتمامه الخاص بدراسات المستشرقة الألمانية "البروفيسورة ريناتا ياكوبي" والتي ترجم لها عن اللغة الإنجليزية خمسة دراسات نقدية جوهرية حول التراث الشعري العربي في العصرين: الجاهلي والأموي. وهذه الدراسات هي التي شكلت مواد ذلك الكتاب.
كانت أفكار ياكوبي متوازنة، ومتطورة، وذات منهجية عالية، ومفيدة، ومريحة للمتلقي العربي، لأنها توقفه على منهج علمي تقويمي ملتزم بحدود المعرفة اليقينية دون أن تسلك فيه مساراً استشراقياً فيلولوجياً يميل على التراث العربي ميلاً مرسوماً سلفاً؛ للنيل من هذا التراث وأهله، كما هو مألوف لدى فئة معينة لها أهداف سلبية مستقرة ومستفزة في المنظور الغالب على هذه النوعية من الدراسات الاستشراقية بعامة.
ويرى الدكتور الرباعي أنه إذا ما تركنا قصة ثمود وما ابتدعه المؤلف من حكايات خارجة عن سياقاتها، فإننا سوف نعرّج على عملين آخرين للمستشرق نفسه يصبان في توجهاته الاستشراقية: أولهما بحث حول قصيدة أحمد شوقي السينية ونفي علاقتها بسينية البحتري ليصل إلى أن شاعر الإحياء كشوقي لم يتأثر بأي شعر إسلامي وإنما انحصر تأثره بالشعر الجاهلي الذي هو المبتدأ والمنتهى.. وثانياً: كتاب آخر له عنوانه: العربية الفصحى الحديثة لقد مدحه العربية مدحاً عالياً مستحقًاً. لكنه في الصفحات السبع الأخيرة أوحى للقارئ أن تطور العربية كان بفعل تأثرها بتلك اللغات، حتى وصل به الأمر أن تنبأ بإمكانية انتمائها لعائلة اللغات الأوروبية بعد عشرين سنة إذا ما استمرت على ما هي عليه الآن من اتباع أسباب الرقي والتطور لدى تلك اللغات؟؟!!.
ويأمل الدكتور الرباعي أن يكون زاد هذه المحاورات أو المناقشات، معتمداً على الأصول، والمرجعيات الصحيحة، وصواب المنهج الدقيق، وإرادة الحقيقة المطلقة، بعيداً عن الاحتمالات غير المرغوبة، ولا المطلوبة في الميدان العلمي المقنن الخالص، والخالي من الزلل والهوى. وإن وقع أحدهما أو كلاهما في الكتاب هنا أو هناك، فغير مبرر علمياً. ولا مقصود لذاته إطلاقاُ.
والكاتب الدكتور عبدالقادر أحمد عبدالقادر ربّاعي تخرج بكالوريوس لغة عربية وآدابها عام 1966 من جامعة دمشق، أنهى درجة الماجستير في الأدب والنقد عام 1972 من جامعة القاهرة، وأنهى درجة الدكتوراه في الأدب والنقد عام 1976 من جامعة القاهرة، وموضوع رسالة الدكتوراه "الصورة الفنية في شعر أبي تمام" وهي أول دراسة عربية للصورة عند شاعر واجد بعينه، وله من الكتب خمسة وعشرون كتاباً في النقد والبلاغة والأدب.