عبداللطيف الزكري .. الشغف بالكلمة العميقة

الزكري يرحل لكن كلماته، فلسفته في الحياة لن ترحل أبدا. هي باقية ما بقي الشوق والشغف بهدف الكتابة الكبير ومرماها الأبعد.
كانت أحاديث الكتب والأدب تبقى وتملأ فراغات الزمن العادي. زمن الرتابة
لم أفصل في ذهني يوما صورة الدكتور عبداللطيف الزكري، عن صور كتاب قيم متقن التغليف نحمله معنا ونستأنس به كصديق حقيقي نعتد بصداقته

رحل الدكتور عبداللطيف الزكري، لكن كلماته، فلسفته في الحياة لن ترحل أبدا. هي باقية ما بقي الشوق والشغف بهدف الكتابة الكبير ومرماها الأبعد.
هكذا عرفته وهكذا كنت أتوق إلى تلك الأوقات التي كنا نقضيها معا، على قلتها، كما أتوق دوما إلى الانفراد بركن في مكتبة هادئة، في حي خلفي، تعج رفوفها بتلك الكتب التي تحس بألفة غريبة معها وأنت تقتنيها. وحده الوقت يكون هاجسنا الوحيد.
كل تلك السويعات، التي كنا نقتطعها من الزمن السريع المنفلت، خلال أصائل الآحاد هناك في مقهى ساحة فرنسا بطنجة، تتركز فيها كل معاني الشغف بالكتابة والكتب، باللغة وبالأدب. 
كنت أنبهر باطلاعه الواسع جدا على كتب النقد ومدارسه العربية منها والأعجمية وخاصة المراجع الفرنسية أو المترجمة عن الإنجليزية. كان الحديث يطول وحديث الكتب خيط رفيع من المحبة يرتق أيام الزمن السريع المنفلت منا.
كانت أحاديث الكتب والأدب تبقى وتملأ فراغات الزمن العادي. زمن الرتابة. 
هكذا عرفت عبداللطيف، ولم أفصل في ذهني يوما صورة الدكتور عبداللطيف الزكري، عن صور كتاب قيم متقن التغليف نحمله معنا ونستأنس به كصديق حقيقي نعتد بصداقته. يحضر دوما وسيبقى بجوار نبع المعرفة وبعبق وأنس الكتب.
كانت معرفتي بالدكتور عبداللطيف الزكري حديثة نوعا ما، باعتبار اهتماماتي المهنية البعيدة عن حقل الأدب. لكني لاحظت عمقه منذ اللقاء الأول وأنا أشارك في الجلسات الأدبية الرمضانية التي كان تنظمها جمعية المتخيل المتوسطي بشارع المكسيك والتي كان الدكتور عبداللطيف الزكري كاتبا عاما لها. هناك، شدّ انتباهي هدوؤه ونزوعه إلى الإنصات أكثر منه إلى الكلام. وكان تلك الصفة لعمري من الصفات التي لازمته طوال كل جلساتنا اللاحقة سواء مع الأصدقاء من الكتاب والمبدعين أو ونحن في لقاءاتنا الثنائية في مقهى ساحة فرنسا.

إن شغف الكلمة العميقة يبقيه حيا حاضرا فينا وأكثر حياة من الكثير من الموتى الأحياء الذين يمشون بيننا

لم تكن للناقد والقاص الدكتور عبداللطيف الزكري تلك اللهفة والاندفاع مع تيار الحياة المضطربة التواقة للجاه والشهرة والثروة. اللهفة الوحيدة التي عرفتها لديه هي تلك التي تنتابه وهو يعثر على كتاب قيم ونادر يثري مكتبته أو نص حقيقي محكم ينال ثقة دورية متخصصة أو مجلة. وثروته الوحيدة هي ذلك الإجماع الذي كان يحظى به من لدن دائرة أصدقائه المقربين القليلين والمعجبين بعمق كتاباته النقدية والإبداعية بعيدا عن النفاق الاجتماعي والجعجعة الفارغة. 
هكذا ظلت تلك الصورة تحضرني وهو ينكب على دراسة مجموعتي القصصية وروايتي اللاحقة والعديد من النصوص المختلفة للكثير من المبدعين والمبدعات بنفس العمق النقدي الأصيل لديه. 
وبالرغم من ثقل حضوره على المستوى الوطني والعربي وعمق تجربته النقدية خاصة في مجال القصة دراسة ونقدا وإبداعا، لم تستطع الدوائر الضيقة المشتغلة في الحقل الثقافي بتلك العقلية الحلقية والنزوع الريعي البين أن تسمح له بالهامش الذي كان يستحقه عن جدارة للانفتاح على التجربة الأكاديمية، كقيمة علمية حقيقية في مجال النقد الأدبي مشهود لها على طول الوطن العربي. فكان أن لاقى كل التهميش والجحود من القيمين على الشأن الثقافي  في بلده. 
ونحن إذ نسوق هذا الكلام فلعلمنا أولا لزهد الراحل في كل ذلك ولحسرتنا ثانيا كيف تفوت فرص كفرصة أن يستفيد أبناء بلده في الجامعات المغربية من تجربة فذة وعميقة كتجربته في مجال تخصصه وتمنح كل الفرص للغث والرديء كعربون آخر على هذا الزمن الرديء. 
ولعل أجمل شيء يعلق بالذاكرة هي تلك الرحلة التي جمعتني بالراحل ونحن نشد الرحال من طنجة إلى الرشيدية عبر مكناس على متن السيارة للمشاركة في ندوة نظمتها الكلية المتعددة التخصصات التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مولاي إسماعيل، حول التجارب الروائية الجديدة بالمغرب والتي كانت فرصة فريدة تعرفت من خلالها عن قرب على أبعاد أخرى لقيمة الدكتور عبداللطيف الزكري الأدبية والفكرية، سواء كناقد عميق أو كقارئ نهم أو كقاص مبدع يروم البعد الجمالي في المبنى وفي المعنى في نصوصه القصصية لغة وموضوعا. 
لكل ذلك فإني أعتبر أن ما أنتجه الراحل الدكتور عبداللطيف الزكري في النقد الأدبي وفي الإبداع سيبقى خالدا في ذاكرة طنجة وفي ذاكرة المغاربة والعالم العربي، ذاكرة كل المخلصين للأدب الرفيع والعميق ضدا على موجات السطحية والريع والرداءة والتهميش التي تتسم بها الحياة الثقافية المغربية عموما.
إن شغف الكلمة العميقة يبقيه حيا حاضرا فينا وأكثر حياة من الكثير من الموتى الأحياء الذين يمشون بيننا.