عبد الله فدعق: صقور المذاهب أبعد الناس عن خطاب الاعتدال

الاعتماد على أن "الأصل في الأشياء التحريم" أصاب الناس بعنت كبير في كل مناحي حياتهم، إضافة إلى التشويش والتشكيك عليهم.
إطلاق "التحريم" أدى إلى حرمان الناس من فرص التقدم والتأثير، في مجالات الحياة المختلفة
من بين القضايا التي يطرحها فدعق قضية "رجم الزناة بين الإسلام واليهودية"

يبني الفقيه والمفكر السعودي عبدالله فدعق رؤاه وأفكاره الفقهية والفكرية في هذا الكتاب "بلى يستقيم.. فقه وفكر" بناء يشتبك اشتباكا مستنيرا مع عدد من أبرز القضايا التي يواجهها العقل الإسلامي في العصر الحديث، وجميعها تتمثل في قضية العيش في مواجهة التغيرات والتطورات. حيث يرى أن كثيرا من الناس يعيش وللأسف خارج الزمن. مؤكدا أن قضايا عصرنا اليوم ليست قضايا فقهية أو عقدية أو تاريخية، ولا يتصور انعزال الناس عن الدنيا ـ وإن كانت فانية ـ ليتفرغوا لجلسات مناقشات مستفيضة حول قضايا دينية تعتبرـ بحق ـ خارج العصر. فالمذهب الفقهي، وكذلك الانتساب العقدي، وأيضا التراث التاريخي، أمور لها أهميتها، فليس هناك فرد في الدنيا بلا تاريخ، أو بلا عقيدة، أو بلا فقه. ولكن هذه الأشياء ـ مجتمعة ومنفردة ـ ليست هي مقومات الحياة، بل هي من شروط كمال العيش فيها.
يرى فدعق في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة أن الاعتماد على أن "الأصل في الأشياء التحريم" أصاب الناس بعنت كبير في كل مناحي حياتهم، إضافة إلى التشويش والتشكيك عليهم. وأدى ذلك إلى النزوع نحو التشديد والتعسير، ورفض الجديد. وظن من هذا رأيه ـ للأسف ـ أن هذا قوة في العلم، وقوة في الورع، والحقيقة تفيد أن ذلك ما كان ليكون لولا التسرع، وضعف التمييز. إن النصوص القرآنية والحديثية تشهد بأن الصحيح هو أن نقول: "الأصل في الأشياء الإباحة".

العقلاء يعلمون أن الخطاب المتوازن لا يروق مطلقا لصقور المذاهب، فصقور المذاهب يملكون من سذاجة الفكرة الدينية ما يجعلهم أبعد الناس عن خطاب الاعتدال

ويضيف: "لقد أدى إطلاق "التحريم" إلى حرمان الناس من فرص التقدم والتأثير، في مجالات الحياة المختلفة، مما أفسد كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله. يقول الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين": "لا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله". فحقيقة الشريعة الغراء تثبت أن دائرة الحرام ضيقة جدًا، ودائرة الحلال واسعة اتساعا بالغًا. والشرع يثبت أيضًا أن النصوص التي جاءت بالتحريم قليلة جدًا مقارنة بما لم يرد نص بتحريمه أو بكراهته أو بإيجابه أو بسنيته أو بإباحته. ورحم الله الإمام السيوطي الذي رجَّح وضبط القاعدة التي ناقشتُها في عجالة، وقال في كتابه "الأشباه والنظائر" الذي يعتبر من أشهر كتب القواعد والفروع الفقهية "مذهبنا الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم". مما يدل على أن ما سكت عنه الشرع غير حرام، وأن الأشياء والأعيان والعادات والأعراف والتصرفات حلالٌ حتى نجد نصًا صريحًا ينهى عنها".
ومن بين القضايا التي يطرحها فدعق قضية "رجم الزناة بين الإسلام واليهودية". يقول فدعق "لست هنا بصدد محاكمة الأحكام الشرعية، والعلماء السابقين، وتراثنا الخالد، إنما هو لطرح قضية مهمة تداولها الكثير مؤخرا، وأقصد قضية رجم الزناة، وما قام به القوم الدواعش، والطالبانيون من قبلهم، وغرضي من الكتابة حول هذا الأمر، حفظ النصوص الدينية من أن يستخدمها الرواجم، محترفو العنف والامتهان، ومحاولة هادئة لإعمال العقل، رغم أن أنصار الخطاب الموجه للعقل في زمننا أقل عددا من أنصار مخاطبة العواطف. 
يعرف أدنى طالب علم أن القرآن الكريم المقروء مع تشنيعه للزنا، حيث يقول تعالى في سورة الإسراء، آية "ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا" لم يعضد دعاة الرجم بأية آية، ولم ينص إلا على الجلد، دون تفريق بين محصن وغيره، أو عبد وغيره ـ حيث ورد في سورة النور "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة". وما حصل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إن صحت جميع الروايات ـ كان نتيجة لزيادة رغبة المتلبسين بالزنا في تطهير أنفسهم، وهذا لا يمكن أن يعتمد عليه في الحكم بالرجم، بل على العكس نجد أنه صلى الله عليه وسلم لم يرغب في الرجم، وتمنى السماح بالفرار للمرجوم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة والنسائي وغيرهم: أن ماعزًا "لما أصابته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل بيده لحي جمل ـ عظمه الذي تنبت عليه الأسنان ـ فضربه فصرعه، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره حين مسته الحجارة، قال: فهلا تركتموه". وعند الجمهور يعتبر الهرب وقت تنفيذ الرجم رجوعا عن الإقرار، والرجوع عندهم يوقف تنفيذ العقوبة".
ويتابع "أما الشافعية فيرون أن الهرب يقتضي الكف عنه لاحتمال قصد الرجوع، فإذا كف فرجع سقط الحد.. ويعرف أدنى طالب علم أن المنافذ الداعية إلى الرجم ضيقة، ومستحيلة، فاشتراطُ حضور أربعة شهداء عدول رأوا المرأة والرجل في حالة زنًا كامل، أمر لا يكاد يتحقق، ولو تخلخلت شهادة أحدهم عوقبوا من دونه، وبسبب ذلك جلد سيدنا عمر بن الخطاب الثلاثة الذين شهدوا في قضية المغيرة بن شعبة لتوقف الرابع عن الإدلاء. وأخيرا.. ومع عدم التبرؤ من ورود الرجم في الصحيحين، إلا أنه لا يمكنني إلا أن أسجل بالفخر سعة علم الشيخ الإمام محمد أبوزهرة، فقد كان فقيها بحق وهو يجهر برأيه في ندوة التشريع الإسلامي، في ليبيا قبل 48 سنة، قائلا: "الرجم شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور"، ولما روجع، رد وقال: "هل معقول أن سيدنا محمد بن عبدالله الرحمة المهداة يرمى الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهى أليق بقساوة اليهود".

ويؤكد فدعق أن الإسلام الجميل جميل، وخاطب الفرد ليعبد ربه، وليكون فاعلا في مجتمعه، وحدّ حدودا للناس، وأعطى حقوقا للجميع، وهو دين متطور، وما جعله جامدا إلا توقف حركة الاجتهاد، والإصرار على التقليد الأعمى، وإغفال أن من حق المهتم بدينه، اختيار ما هو ملائم لحياته، والقاعدة تقول "لا ينكر على مختلف فيه ولكن على مجمع عليه"، وبدون ذلك لن نفهم أن الشريعة كالمخلوق ينمو ويتجدد ويتكيف، وأن القياس من أهم وسائل التشريع الإسلامي، وأن الاستحسان والمصلحة قواعد مهمة أيضا، وأنه يمكن ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، فالشريعة - كما قال ابن القيم: "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.. في مناقشة قضايا الإسلام المعاصر ليس هناك حجر على الفكر الجديد، وحتى نتمكن من الإبداع والانطلاق والتحرر من القيود التي تؤدي إلى قبول كل ما هو موجود في حياتنا، مطلوب عدم الركون للعجز والاستسلام لثوابت الواقع، ومن القواعد الدينية المساندة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"، التي تدل على أن عناصر التغيير من المنظور الإسلامي كثيرة، ومنها البيئة، والعرف، والعادات، وصلى الله وسلم وبارك على القائل: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به"، والقائل: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وكلها نصوص تعطينا فكرة عن عمق الفروق بين العبادات والمعاملات، وأنه لا حفظ من الغلو إلا بالتفقه في الدين".
ويرى بدعق أن قضية التجديد في الفكر الديني، أمر بدأ منذ قرون طويلة، ومن يصغي سمعه إلى الرافضين له، أو الواضعين للعقبات دونه، أو أولئك المرددين لأقوال ظنها بعضنا وحيا، من مثل "لم يترك الأوائل للأواخر شيئا"، أو نحوها، سيؤخرنا عن الركاب، وسيمنعنا من اللحاق بمن دفع بالحياة نحو التقدم والتطور. ومن الأسئلة التي وصلت إلى المسامع، وما زالت تتجدد بين الفينة والأخرى، هل يمكن الرهان اليوم على جيل جديد من طلبة العلم، في صناعة خطاب فقهي جديد؟ الجواب من الوهلة الأولى هو أن الرهان ممكن، ولكن ذلك وحده لا يكفي، فرهان التطوير والتجديد، لا يمكن كسبه بغير العكوف على مراجعة نقدية صريحة للخطاب الديني الحالي، ومراجعة تجديدية، لكل من النسق الدلالي والاستدلالي للنظام التشريعي. لا يمكن أن نتطور في نظرتنا الفقهية، بغير الاستمداد من المكتسبات الحديثة والمعاصرة، وهذا في ذات الوقت يوجب انفتاح علوم التشريع الإسلامي، على مختلف العلوم، كذا الانخراط في مشروع موسع، لوصل علوم الشريعة بكل شيء، وبذل الجهد في اتصال وتواصل علماء الفقه من كل المدارس والمذاهب، دونما استقطاب من أحد على حساب أحد، وما من شك في أن لكل صاحب مذهب الحق، في أن يشعر بأن مذهبه هو الوحيد الذي على حق، وأن فرقته هي الوحيدة الناجية من النار، ولا بأس أن يتوقف الأمر عند ذلك، ولكن أن يتم إلزام الناس به، فهذا هو الذي تمكن تسميته بالعراك الطفولي.
ويضيف "لقد حان الوقت للخروج من فكر العصور المظلمة، وإدراك أن للدين ربا يحميه، والتخلص من التعقيدات، وترك إشغال أنفسنا بالحروب الوهمية على هويتنا، وعلى إسلامنا، وأن نمتلك الجرأة على التعامل مع الواقع، والإصرار على أن يكون الفقيه منا جادا مع مجتمعه، ومتحررا من عقد النمطية القاسية، التي تعيشها الشريحة العريضة من الناس، وأن ننطلق في خطابنا من لغةٍ هي بالفعل أقرب إلى المشتركات، منها إلى الشعارات السطحية.. العقلاء وبصراحة هم قلةـ توصلوا إلى أنه من العبث أن يستمر الناس في التعامل مع بعضهم البعض، على أساس التصنيفات، والتصنيف المذهبي والفكري بالخصوص، وللأسف نحن ما زلنا نتعارك على من هو صاحب المذهب السماوي، ومن هو صاحب المذهب الأرضي، والمؤسف الأكبر أنه صار بيننا من نسمعه يقول، إن المذهب الفلاني أكثر خطرا من الصهيونية، والماسونية. 
إن هؤلاء العقلاء يعلمون أن الخطاب المتوازن لا يروق مطلقا لصقور المذاهب، فصقور المذاهب يملكون من سذاجة الفكرة الدينية ما يجعلهم أبعد الناس عن خطاب الاعتدال، لكن العقلاء يعلمون أن مستقبل الفهم الديني لجيلٍ أو أجيال لاحقة سيقدّر حتما قيمة الفكرة النيرة، والخطاب المستنير، وأن ضجيج المخالفين سيختفي ولو بعد حين، والمهم هو أن نقدم لونا مختلفا للغة الدينية، نمزج من خلالها قيمة الفقه مع القيمة الاجتماعية لحياة إنسان اليوم، مع مقاربة حقيقية بين الفكرة الدينية والأفكار الأخرى، وبما يهدف إلى إنهاء صراعاتنا المختلفة".