عبيدة فياض يبحث عن سر اللحظة ويلتقط الوجع من نبضه

الفن التشكيلي يعود بقيمه التشكيلية إلى محاكاة التعبير بالتجريد كجانب لإبراز فسحة يشتغل فيها على عدم إلتزامه بضرورات التصنيف فهو يرفض التقييد مهما كان زخمه عالياً ويكون في عملية بحث مستديم عن سر اللحظة وولادتها ليلتقطها كصياغة لونية تحمل الجمال إلى اللانهاية دون أن تلغي إنفعالات ستبث رغماً عنه في كل مفاصل اللوحة.

إذا كان فرخ البط عوام، المقولة الأشهر حين يكون الإبن متقناً أبجدية أبيه أو أبجدية نجاحاته، المقولة دقيقة إلى حد ما في معناها الإيحائي، لكن هل إبن الفنان التشكيلي فنان، قد يكون نعم وهذا قليل، وقد يكون لا وهذا كثير، فتلك المقولة غير دقيقة هنا، فالفن التشكيلي كبحر من لون وضوء لا يستطيع العوم فيه من لا يتقن أسرار هذا الفن من العوم وأسرار عشقه، حتى لو كان إبن فنان كبير، فالعوم هنا لا يكون بالتعليم الذي قد يجعل منه رساماً لكن لن يجعل منه فناناً على الإطلاق، لكن رغم ذلك هناك أسماء إستطاعت أن تكون فرخ بط ونجحت في العوم والغوص فيه وقطفت منه ما هو مثمر وناضج، وحينها قد تكون لسلطة إسم الأب قيداً لأصابعها على عكس ما نتصور، أو ربما بعضها تكون إمتداداً لأبيها، أو تتقاطع معها كثيراً أو قليلاً، أو ربما لها طريق آخر ومغاير تماماً.

والأسماء الشابة التي فرحنا بها وبنجاحاتها كثيرة نذكر منها:

 عبيدة عبدالحميد فياض، فادي فاتح المدرس، سمر عبدالرحمن دريعي، لوند عنايت عطار، رئيف صبري رفائيل والقائمة حتماً أطول من ذلك، وسنحاول أن نقف عند بعضها، نرصد إنجازاتها، ونقترب من أعمالها، ونبحث عن الجديد عندها، وإذا كان المدرس الأول لبيكاسو كما قيل هو أبيه، فهو هنا فرخ بط وعوام وبإمتياز، بل إنه أبهر أبيه وفاجأه وهو بعد طفل لم يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، وتجاوز أبيه لاحقاً ولمسافات بعيدة، فهل سيكون الأب لهؤلاء الفنانين كما لبيكاسو معلمهم الأول سنترك هذا التساؤل لهم ولنا، ليجيب كل منا عليها بطريقته.

أما الآن فستكون وقفتنا الأولى عند أحدهم وليكن عبيدة فياض، الفياض حباً وجمالاً كفراته القادم منه، والذي يحمل من عبقه وعبق قصبه وناسه الكثير، والمستحم به قادر أن يستحم بريشته في وجود ستمنحه لاحقاً العنان، ليطلقها في الجهة التي يريد،  فياض سليل أب فنان (عبدالحميد فياض  الذي له حضوره ومكانته كالفرات ذاته وفياض رافده الأغزر والأجمل والأعذب، ورغم إختلاف الإبن عن الأب في كيفية تعامله مع الملفوظ البصري، وكذلك في تحديد وحداته وإنعكاساتها الخاضعة حتماً لتجربته الخاصة وإنشغاله على تلك التحولات في خارج الأهواء التي قد تنبثق من مضمون بعض محاوره، الترابطية منها والإستدلالية، إلا أن ما يجمعهما أقصد الإبن والأب هنا هي تلك الكثافة اللونية التي تمس الفضاء عبر تكوين مجموعات متوالية، الكيان فيها رمزي، والحكاية جديدة قديمة كلاهما يسردانها بتعبيرية تجريدية وبتراجيديا عميقة وموجعة، فالواقع مليء بالتجريد و(التراجيد)، وكذلك يجمعهما تلك السماكات اللونية التي تحل على العمل بنمط من الكتل التي يتم إستحضارها من الذاكرة بموجوداتها المشبعة بتراث وقصص الأولين والتي تنطق القماش بأكثر من إيحاء، وتخلق أكثر من تصور ذهني والتي تمنحهما بصمة في نقل معطيات مشتقة من خصوبة الفرات ومن طقسها القديم حيث الجذور تأبى التغيير مع السعي نحو تحريك صيغ لونية جديدة بلمسات وأدوات جديدة.

ففياض يصوغ وجوهه بدقة بالغة في تحديد فحواها، ضمن بلورة جغرافية، مناخية معينة تشكل واقعه ذي تركيبة مأساوية، فهو هنا يبدو أقرب إلى تضليل تلك القسمات الممتلئة بالنقمة منها إلى التعب، تلك القسمات الحادة والقاسية داخل إحالات الوقت ذاته وكأنها قادمة من مقبرة نفخ فيها إسرافيل تواً، فهو يستطيع أن يلتقط الوجع من عرقوبه بل من إنفه ويجره كعلامة تعريف لتلك الملامح المشوهة، بل لتلك الرؤوس التي تحمل زوبعتها وقيامتها أسوة بالأشياء التي يعيشها في حدود إرتباطها بحالات قد تكون خزان إنفعالاته، تلك الإنفعالات المنسابة من دواخله على البياض كالفرات في فياضانه وغضبه، فهو يظهر مأساة الإنسان ووجعه والتلوث الذي أصيب به لدرجة أنه كإنسان لم يعد يشبه نفسه، فكان التشويه الصارخ الذي يشتغل عليه فياض والذي سيستفز المتلقي كثيراً ليست إلا القليل مما لحق به ككائن اسمه إنسان، فهو بؤر الخراب على هذه الأرض، وجذورها الممتدة في الجهات كلها، وهو من يبدع ويتفنن في القتل والدمار، هذه الحالة المقلقة إلتقطها فياض وقدمها في إرهاصاته الكثيرة وعبر وجوه لا ملامح لها، وإن وجدت بمعطياتها الحسية فلا رؤية لأصحابها والبوصلة تاهت بهم ولهذا كل مافيها من تشوهات وتشنجات ما هي إلا منفسه نحو تبيان عالمه ولحظاتها، فالهدف في الفن المعاصر غالباً ما يكون لولبياً، وهذا ما نلاحظه في عمل فياض الذي يعبر عن هواجسه وتطلعاته بقوة إشاراته وطقوسه، بقوة الوجود الإنساني، كونه يملك الكثير من أدوات العزف على القصب القراتي، على الناي الشجي الذي سيوقظ النهر ذاته، فتتسارع نبضات هديره في حركة أصابع فياض وهي تنفذ مع فرشاته إلى أعماق لحظاته بكل وداعة وطفولة، دون أن يقايض معزوفاته هذه بأية إيقاعات اكتسبها من الغرب حيث يقيم منذ فترة.

ففياض شديد التركيز على الحالة الإبداعية وعلى كيفية جريانها، فيذهب نحو رائحة الفرات وتعب مائه، نحو الناس البسطاء الذين ولدوا وكبروا وعشقوا الفرات وضفافه ً، وكأسماكه التي لا حول ولا قوة لها، ما إن كان الطوفان حتى جرفت بعيدة ومعها كل عزيز وجميل ضمن سيرورة الغياب أو الفناء، ومع ذلك فهو يبني نصه البصري من النسق الدلالي وفق سلسلة من التساؤلات التي يثيرها في مخيلة متلقيه ويدفعه نحو فضاءاته مشاركاً به في الإمساك بعمليات الخلق من جهة وبما يؤكد تحديد الأبعاد المراد إنتاجها ولو ضمن سياق التأويل وما يحمله من صعوبات من جهة ثانية، وبغض النظر عن وجهة نظرنا مع أو ضد، فإن اللوحة المعاصرة التي ينتجها فياض فيها من الصراخ والعويل ما يعادل ريختر بمقياس الزلازل، أو صراخ أشبه بحافلة الضوء في سرعتها وفي إصطدامها بحافلة حبات المطر وتوزعها، لما فيها من تأسيس لمنبهات لوضعية الإنسان وما تبقى فيه من إنسانيته التي ربما سقطت منه جميعها حتى بات كائناً لا يشبه نفسه، وهذا ما يشتغل عليه فياض وما يبرر تلك الأشكال من الرؤوس التي تزين أعلى أجسادنا والتي باتت وحدها تليق بنا كإنسان سابقاً، وهنا المدخل الرئيس إلى تجربته والكشف عن قلقها وتعبها وحزنها وتمايزها وإن بصراخ أشبه بشهقات الروح في زمن ما، زمن بات خارج ذاته، زمن بات آلة صوت لا تنويع في سياقاته ولا في مضامينه، فوجود شبكة علائقية وسط عالم من العلامات، عالم من الوقائع قد تكون بداية تعاقد بين أشكال التداول بوصفها أنماط وجود قد تكون مهمتها التكهن بالأمل الراحل كأداة للتصنيف لا للتعيين، للتسجيل لا للتعريف.

فياض يعود بقيمه التشكيلية التي فيها من الخصوصية ما يميزه، يعود إلى محاكاة التعبير بالتجريد كجانب لإبراز الفسحة التي يشتغل فيها على عدم إلتزامه بضرورات التصنيف، فهو يرفض التقييد مهما كان زخمه عالياً، ويكون في عملية بحث مستديم عن سر اللحظة وولادتها ليلتقطها كصياغة لونية تحمل الجمال إلى اللانهاية دون أن تلغي الإنفعالات التي ستبث رغماً عنه في كل مفاصل اللوحة.