عتيق رحيمي يهشم حجر الممنوع

الروائي الأفغاني الأصل فرنسي الجنسية ينطلق من موضوعات واقعية غزتْ مجتمعات الشرق الأوسط عامة والأفغاني خاصة.
في الإماكن المحكومة بتقاليد العشيرة وسطوة الدين تكون المرأة هي الضحيّة والجلّاد
لغة جريئة ممزوجة بالشعرية ذات الإيجاز الناطق بكلِّ ما هو مسكوت عنه 

لطالما حافظتْ مجتمعات الشرق الأوسط على كلِّ ما هو مقدّس حتى تناست الإنسان، وكان أحد ضحايا مقدس التابوهات المرأة. 
عتيق رحيمي الروائي الأفغاني الأصل فرنسي الجنسية في روايته "حجر الصبر" الفائزة بجائزة غونكور الفرنسية، والصادرة عن دار الساقي بترجمة صالح الأشمر. ينطلق من موضوعات واقعية غزتْ مجتمعات الشرق الأوسط عامة والأفغاني خاصة وما فيه من حروب قادها المتطرفون فتحول المجتمع إلى بؤرةٍ من الدم. وما يُميّز الرواية لغتها المكثّفة بالصور، وصوت المونولوج الداخلي الذي ظهرَ بشكلٍ جلي واختار الكاتب لهذه المهمة الراوي العليم الذي حرّك الحدث والشخصيات بحرية تامة، كمّا هيمنت الشخصيات النسويّة على الرواية، فكان أبطالها النساء الشخصية الرئيسة الشابة المتزوجة من محارب في الجبهات، ولها طفلتان أنجبتهما عبر زنى المشعوذين؛ لضمان بقاء الزوج العقيم الّذي أُصيبَ بطلقٍ ناري لم يقتله، بل جعله جثة هامدة تتنفس وتسمع في غرفةٍ كئيبةٍ معلقة فيها صورة وخنجر.
بهذا أعطى الروائي الحرية الكاملة للشخصية البطلة (الزوجة) للحديث عن كلِّ ما هو مسكوت عنه، وهذه الطريقة ذكية لجعل الحدث أكثر واقعية، فتنطلق المرأة بسرد ذكرياتها وكسر التابوهات التي بنتها المجتمعات الدينية، كذلك تسرد قصص بتقنية "الميتاسرد" لكنّها لا تضع نهايات لتلك القصص كشهرزاد في ألف ليلة وليلة التي تترك القصة بلا نهاية، وهذه الزوجة الشابة ما هي إلّا نموذجاً ناطقاً عن نساء وقعن بنفس المعاناة، فعاد الروائي عبر الاسترجاع الزمني لطفولة المرأة لتروي الممارسات القهرية ضد الأنثى في المجتمعات ذات الهيمنة الأسلاموية، فتقول لجثة الزوج: "في مرحلة طفولتي ما كنت أعرف شيئاً عن الرجال ولم أعرف سوى أهلي ويا لهم من قدوة حسنة، أبي كان كل همّه مُنصبّاً على طيور السُّمانى في كثير من الأحيان كنت أراه يُقبّل السُّمان لكن لم أره يقبّل أمي أو يُقبّلنا نحن أولاده كنا سبعاً. سبع بنات محرومات من الحنان" (ص63). 

novel
مُهداة إلى شاعرة أفغانية قُتلتْ على يد زوجها 

في الإماكن المحكومة بتقاليد العشيرة وسطوة الدين تكون المرأة هي الضحيّة والجلّاد، فعندما تُعامل بهذه الطريقة المعنفة تنشأ معها غريزة الانتقام أمّا عن طريق الانتحار أو قتل الآخر، وما يظهره النسق الثقافي بالرغم من القانون الذي منحه الإسلام للمرأة لكنّها ظلّت تُعامل كما في الجاهلية، وكأن دور الدين فقط جاء لإضفاء الحق السياسي للسلطة التي تحكم باسمه، ولم يهتم بالجانب الإنساني، لذلك تنشأ الأنثى على هاجس الشرف المتمثل في غشاء بكارتها، فتقول للجثة  (الزوج) التي أطلقت عليه حجر صبري: "عندما تضاجعون مومساً لا تمتلكون جسدها. أنتم تعطوها مالاً وهي تعطيكم لّذة .. ومضت تقول: إذن اغتصاب مومس ليس اغتصاباً لكنّ انتهاك بكارة الفتاة يعني اغتصاب شرف امرأة تلك هي عقيدتكم" (ص88). 
الروائي هاجم تلك التابوهات بلسان المرأة مهشماً المقدّس، الشرف في عقيدة الشرق الأوسط يكمن في "بكارة المرأة" وهذه الرؤية قاصرة ولا يتمّ تصحيح مسارها إلّا عبّر مهاجمتها ونسفها، ولا يتمّ إلا عن طريق الأدب بالرغم من أن الأدب ليس وظيفته الإصلاح، لكنّه يبث مشاهد توعويّة عند الآخر، وهنا تأتي مهمة الأديب في إيصال رسالته مع الاحتفاظ بقيمة النّص الأدبي في محاولة تصحيح ما كرّسه الدرس الفقهي في أذهان العامة، والذي ركزَ على أن الفرد هو هبّة من الله ليقاتل أعداءه في الأرض، وهو منذورٌ للموتِ، والحياة الحقيقة في السماء العلا مع الحور العين.
وهكذا يتمّ غسيل دماغ الشباب وتشويه الحياة في نظرهم، واستمرت المجتمعات بالمزيد من التخلّف والحروب فعاد الروائي بلعبة سردية عن طريق بطلته لتشتد المواجهة في تحطيم الأفكار الصنمية. فيروي على لسانها عند خروجها على المقاتلين مدّعية العمل وعند سؤالهم عنها عملها قالت: "أبيعُ لحمي كما أنتم تبيعون دمكم ــــ ما هذا الكلام؟ أبيع لحمي لأمنح الرجال لّذة" (ص86). وبهذا تكون المرأة "عاهرة شيطانة تحرق وهي وحيّة"، وهذه اللّعبة السردية فتح عن طريقها باباً أخر لتقيم علاقة مضاجعة مع صبي مقاتل إذ جعل شخصيته (مازوخية) كذلك لا يستطيع النطق سوى التأتئة ويُعذب من قبل قائده. وهذه الشخصية هي معادل موضوعي عن كلّ الشخصيات التي تقود الصراعات والحروب وتنشر الفكر المتطرف فهي خارجياً تدّعي القوة، أما في دواخلها تعاني من اضطرابات نفسية كثيرة جعلتها تلجأ إلى العنف وهذا ما روته البطلة للزوج الجثة عن وجه الشبه بينهما "تذكّر عدد الليالي التي ضاجعتني فيها وتركتني على .. على اضطرابي. عمّتي ليست على خطأ في قولها إنّ أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحبَّ يصنعون الحربَ" (ص110). وهذا النص يحيلنا إلى علم النفس وفرويد الذي ذكر أن الكبت الجنسي أو الغريزي يولّد العنف والحرب والعداء مع الآخر، وهذا ما تعاني منه المجتمعات الشرقية بعد أن طوقتْ بالتابو المقدّس.
الرواية مُهداة إلى شاعرة أفغانية قُتلتْ على يد زوجها بكل بشاعة، حين حاولنْ النساء الهروب من الحروب إلى الحبِّ عن طريق الإيحاء الشعري ولم يسلمنْ. الروائي عتيق رحيمي بلغته الجريئة الممزوجة بالشعرية ذات الإيجاز الناطق بكلِّ ما هو مسكوت عنه هشم حجر الممنوع.