عزالدين نجيب يرصد تحولات الفن عند مفصل القرنين

مكتبة الفنون التشكيلية في العالم العربي تفتقر إلى دراسات تأصيلية حول القضايا المفاهيمية للفن، خاصة المتعلقة بتيارات الحداثة في التجربة المصرية والعربية.
في الحضارات القديمة، كان الفن هو عماد طقوس الدين والدنيا والآخرة
كانت السنوات المفصلية بين قرن يغرب وقرن يشرق حافلة بتحولات جذرية وقضايا مفاهيمية

القاهرة ـ من سعاد محفوظ

يرى  الناقد التشكيلي عز الدين نجيب مؤلف كتاب "تحولات الفن عند مفصل القرنين" أن مكتبة الفنون التشكيلية في العالم العربي تفتقر إلى دراسات تأصيلية حول القضايا المفاهيمية للفن، خاصة المتعلقة بتيارات الحداثة في التجربة المصرية والعربية.
ويعتبر الكاتب أن الفن في جوهره، ومنذ نشأته الأولى، كان تعبيرًا عن كليات وجودية: وجود الأنا في مواجهة وجود العالم، وجود الحياة مقابل وجود الموت، وجود الخير أمام وجود الشر، وجود الزمن في ارتباطه بالمطلق، وعلى امتداد الدورات الحضارية لم يجعل الفن – إلا نادرًا جدًا – بالتعبير عن الذات في مواجهة الآخر، ذلك أنه كان معنيًا بالكشف عن «الما وراء» أكثر مما هو آني وعرضي وشخصي في العلاقات الاجتماعية، وربما كان لارتباط الفن بالدين، على امتداد هذه الدورات الحضارية، ثم بالنظم الشمولية المهيمنة طبقية كانت أو استعمارية أو ملكية أو ثيوقراطية أو أيديولوجية، لذا كان لهذا الارتباط تأثيره في تكريس تلك النظرة الكلية.
وفي الحضارات القديمة، كان الفن هو عماد طقوس الدين والدنيا والآخرة، له صفة القداسة والثبات، لا تتغير تقاليده وأغراضه إلا على فترات متباعدة، حسب تغيرات العقائد الدينية وتقلبات الحكم، ومن ثم فإن رؤى الفنانين، وتكوين الذوق العام بالتالي، كانت محكومة بالثقافة السائدة لكل من سلطة الدين وسلطة الحكم، وغالبًا ما كانت السلطتان تمثيلاً لسلطة واحدة، فينطبع العصر بطابع فنونهما، سواء في العمارة أو الأثاث أو الملابس أو الحلي أو فن الجداريات أو فن النحت. وكان من الطبيعي آنذاك ألا تكون لذاتية الفنان المبدع أهمية كبيرة في هذه الفنون، بحكم التزامه بقوانين موضوعية صارمة مقررة من قبل.
الفن والعولمة

ومن جانب الرؤية النقدية يرى المؤلف أن اجتهادات النقاد المصريين اقتصرت غالبًا على النقد التطبيقي، معتمدين على مدارس ومفاهيم الفن في الغرب على امتداد القرن العشرين، بدون السعي - مع استثناءات قليلة - لعقد مقارنات بين ظروف نشأتها في بيئة حاضنة لها هناك، وبين ظروف حضارية وثقافية ومجتمعية مختلفة في مصر والبلاد العربية، وبدون السعي -كذلك - إلى نقد تلك المدارس والمفاهيم في ضوء المتغيرات والتحولات التي شهدتها في منشأِها طوال القرن الفائت وحتى اليوم، خاصة بعد أن تجاوز العالم في الغرب عصر الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
وشهد هذا العالم تحولات ومتغيرات جذرية مماثلة، في النظر إلى الفن وعلاقته بمنجزات التقدم التكنولوجي وإلى طبيعة سوق الفن، جنبًا إلى جنب مع تقلبات السياسة حال دخولها عصر القطبية الواحدة التي انفردت بها أميركا فأصبحت الراعي الرسمي للعولمة، ثم ظهور أقطاب سياسية واقتصادية وثقافية جديدة من بلاد الشرق راحت تنازع تلك القطبية الواحدة والغازية، في سيادتها العولمية ومكانتها المنفردة بالعالم، برؤى مختلفة – إلى جانب الاقتصاد والسياسة – حول الفنون وعلاقتها بالمستقبل، فكانت السنوات المفصلية بين قرن يغرب وقرن يشرق حافلة بتحولات جذرية وقضايا مفاهيمية على مختلف الأصعدة ومنها الفن.
ويتضح من مضمون الكتاب أن هذا الموضوع قد شغل المؤلف طويلا، ويكشف عن هذا قائلا: "لقد ظللت مشغولاً بتلك القضايا طوال سنين امتدت من أواخر الثمانينيات الفائتة حتى الآن، وحاولت الاشتباك فكريًا مع المفاهيم والنظريات المتعلقة بها، ونقدها في ضوء ظروف نشأتها وتحولاتها التي بلغت ذروتها خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة، وعبرت عن ذلك في دراسات ورؤى قدمتها عبر ندوات دولية ومحلية، ومؤتمرات وبيناليات وتريناليات أقيمت في بلادنا أو في الخارج، وحاولت تطبيق اجتهاداتي النقدية على واقع الحركة التشكيلية في مصر والعالم العربي، منذ نشأتها حتى اتجاهات الشباب المعاصرة، في ضوء مخزوننا الحضاري والثقافي والمجتمعي، تلك الأبعاد الحاكمة لمركَّب ما نسميه (الهوية المصرية)، وتفاعلها مع الثقافات الوافدة من الغرب من رياح العولمة سلبًا وإيجابًا.” 

تأسيس ذاكرة لمسار الإبداع والفكر الفني
الترتيب الزمني للقضايا الواردة 

يتضح من الكتاب أن المؤلف اختار أن يضمنه العديد من الدراسات التي نشر بعضها في مجلات وصحف بمصر وخارجها، وبعضها الآخر نشره في الكتاب فقط، الذي قُسمه إلى خمسة أبواب؛ بين مفاهيم الفن ومتغيرات العصر، وبين محاكاة فنية للخصوصية والعالمية، وبين إشكاليات ومناظرات نقدية، وخصص بابين للملفات المحلية، أحدهما عن مشكلات الفن المصري، والآخر عن الفن العربي، وفيهما يطرح وجهة نظره حول الجذور والحداثة والهوية، وبالرغم من ارتباط أغلب هذه الأبواب الخمسة بأحداث فنية وثقافية – حيث كتب المؤلف كل مادة في حينها – فإنها قامت على منهج سياقي يتعامل مع صيرورة الحركات الفنية محليًا ودوليًا في الزمان والمكان وكذلك المستقبل.
وإلى جانب ما تمثله هذه الموضوعات المطروحة من أهمية للدارسين، خاصة لأجيال جديدة من الشباب لم تتوفر لهم الفرص للتعرف على «ما وراء» إبداعات الفن قديمًا وحديثًا برؤية نقدية مغايرة للسائد والمألوف مما تلقوه من مصادر أكاديمية أو صحفية أو غيرها، فإن هذا الكتاب يمثل رصدًا تاريخيًا قد يساعد في تأسيس ذاكرة لمسار الإبداع والفكر الفني محليًا وعربيًا على مدى عدة أجيال، عاصرها المؤلف وتفاعل معها، ويرى أنها أضافت إليَّه الكثير؛ مؤمنًا بأن ما نتصوره جزءًا من الماضي الذي ولَّى زمانه، إنما هو طاقة فعالة في الحاضر ومحركة نحو المستقبل، ولا مناص لنا جميعًا من الربط الجدلي المستمر بين هذه الأزمنة الثلاثة، لهذا حرص على الترتيب الزمني للقضايا الواردة فيه في تاريخها.
واعتبر الكاتب أن هذا الكتاب يمثل موجزًا لمشروعه النقدي الذي اشتغل عليه نظريًا وتطبيقيًا منذ سبعينيات القرن الماضي.
يذكر أن كتاب "تحولات الفن عند مفصل القرنين"، لمؤلفه عز الدين نجيب  صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017. (خدمة وكالة الصحافة العربية)