عزل المستفيدين من الصراع الليبي

لا يستطيع غسان سلامة التحرك في مشاريع السلام في ليبيا من دون أن يبرهن انه محايد.

بدأت تظهر ملامح لتوجهات إقليمية ودولية ترفض استمرار الوضع المتدهور في ليبيا. ربما لم تتبلور معالمها النهائية بعد، لكن هناك دولا عازمة بقوة على وقف أنهار الدم التي تسيل كل يوم في مناطق مختلفة، تثير انزعاجا سياسيا وإنسانيا لدى البعض، بينما يجني آخرون مكاسب اقتصادية من ورائها. ما يتطلب تعديل الدفة في كثير من الأمور، لأن أي نتائج تتمخض عن التحركات الجديدة ستكون عديمة الجدوى ما لم يتم تصحيح الخلل الراهن والتأسيس لقواعد تراعي مصالح الشعب الليبي أولا.

أصبحت دول كثيرة على قناعة بأن فشل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق في القيام بدورهما من الدوافع التي قادت إلى استمرار الأزمة الراهنة. ولم تعد جهات دولية عديدة تتحدث بإيجابية عن حكومة أو أجسام سياسية رسمية في طرابلس.

هناك حالة من التجاهل المتعمد في بعض اللقاءات التي جرت مؤخرا، بعد أن تمت اضاعة الفرصة تلو الأخرى بسبب تغليب المصالح العقائدية، وتقديم المكاسب المادية والشخصية على غيرها من القضايا الوطنية.

ويشعر الفريق الذي يدور في فلك حكومة الوفاق بأطيافه العسكرية والسياسية، أن البساط ينسحب من تحت أقدامه، ويرى في تصعيد المعارك أخيرا بابا لإعادة التموضع، بما يشي أنه قوة مؤثرة في التوازنات الليبية، أملا في استعادة ما خسره في الحرب الفترة الماضية، وكي لا يكون خارج أي معادلة سياسية قد يتم تدشينها قريبا.

كشف غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا عن بعض من أفكاره السياسية لعقد مؤتمر دولي وملتقى وطني. وهي محاولة جيدة لتحريك المياه، غير أن الخطوة تستوجب تأكيد الحياد وعدم التسرع في التصرفات، والإعداد الجيد مع الدوائر المعنية في الداخل والخارج، ويكون البرلمان ممثلا بشكل محوري، لأنه البوابة الشرعية والجسم المنتخب الوحيد الذي يمثل ليبيا ومناطقها، بدلا من استهلاك الوقت في البحث عن أسماء تضم شخصيات معطوبة سياسيا.

يستلزم الغضب المعلن والمكتوم، التعجيل بطي الصفحات القاتمة وفتح أخرى للمفاوضات السياسية، وتكون مهيأة لاستيعاب المتغيرات المقبلة في المشهد الليبي، وعلى استعداد لتبني تصورات وإجراءات تؤدي إلى تحول حقيقي يساعد على فك الكثير من الطلاسم التي أفضت إلى تعقيد الأزمة وصعوبة مبارحتها خندق الحرب الذي بات مفضلا للبعض.

وتقتات الكثير من شبكات الفساد المحلية والدولية على الموارد الليبية، وأوجدت لنفسها طرقا وحيلا متباينة ربما تعجز المافيا عن التفكير فيها. وتستخدم البر والبحر والجو لمزيد من استنزاف الاقتصاد الليبي.

وقد ضاع نحو 400 مليار دولار من أموال الشعب خلال ثماني سنوات فقط. أنفق أغلبها على مد الميلشيات بالسلاح وجلب مرتزقة وتهريب متشددين ودعم قادة التنظيمات الإسلامية ودفع رشاوى سخية للمسئولين. ما أدى لظهور جماعات مصالح عابرة للحدود مدعومة من حكومات، وتجتهد في بعثرة الأوراق لمنع الوصول لدرجة من الهدوء تفتح الطريق للأمن والاستقرار.

وسط كل هذا، فشل المجلس الرئاسي الليبي ذات يوم في توفير 60 مليون دينار لمفوضية الانتخابات، لأن هناك أعضاء يعرقلون هذه الخطوة، ويعملون على استمرار الوضع الحالي. وطالما هناك غياب للشفافية وبقرة حلوب وسيولة شديدة في الانفاق بلا رقيب أو حسيب، سوف يظل خلل الهياكل عائقا أمام أي محاولة للضبط والربط.

ومنذ عام 2017 يتم صرف الميزانية بمعرفة رئيس المصرف المركزي من دون موافقة البرلمان، ويتم انفاق أغلبها على فئة محدودة من المستفيدين في طرابلس، بينما يذهب الفتات للمواطنين في الغرب والشرق والجنوب.     

يطال التوزيع غير العادل للثروة غالبية سكان ليبيا، وفي مقدمتهم فئة عريضة تقيم في الغرب. ومن الانصاف أن يحصل الجميع على حقوقهم كاملة بدلا من توزيعها على شريحة محدودة، همها تكريس الانفلات وتغذية الحرب بالوسائل التي تضمن عدم توقفها لابعاد شبح المحاسبة والعقاب.

هؤلاء يجب أن يلتفت إليهم المجتمع الدولي، فالسكوت ساهم في تلويث سمعة بعض القوى، وأكد تقاعسها في التعاون والتنسيق لحل واحدة من الأزمات التي تتجاوز أبعادها حدود ليبيا، وأشار بأصابع الاتهام إلى أنها تجني أرباحا باهظة من المعارك الحالية.

إذا نجح المجتمع الدولي في منع الفوضى وكبح الفساد وسد المنافذ التي يتسرب منها أصحابه وأغلق الصنبور الداخلي الذي يمدهم بالأموال، سيتم حل واحدة من المشكلات الكبيرة التي جعلت أيادي المستفيدين من الحرب أعلى أحيانا من الراغبين في السلام. فمن يمسك مفاتيح الاقتصاد ويسيطر على الموارد الرئيسية من الطبيعي أن يرفض الشروع في عملية سياسية تعيد هيكلة مؤسسات الدولة على قواعد سليمة.

دفعت دولة مثل تركيا بسفن كثيرة محملة بالأسلحة والمعدات العسكرية نحو الشواطئ الليبية، ناهيك عن سرب كبير من الطائرات المسيرة تم اسقاط عدد كبير منها بمعرفة الجيش الوطني الليبي. ومع ذلك لم تقدم لجنة الخبراء التابعة لبعثة الأمم المتحدة الأدلة اللازمة لهذه الانتهاكات التي يعاقب عليها القانون الدولي.

وبدت تقاريرها مسيسة وليست مهنية، لأن بها عناصر تؤيد أنقرة وتماديها في التعامل القذر مع الأزمة. ولم يتم تقديم تبرير واضح لتدفق السفن أو اتخاذ موقف جاد منها، أو مساءلة القائمين على هذه اللجنة.

لست بحاجة للدخول في تفاصيل الألاعيب التركية، فهي متاحة للجميع وتداولتها وسائل إعلام مختلفة. وبدون عزل المستفيدين من الأزمة، ومنع هذه الممارسات ووقف الفجوة في الإجراءات التي تتخذها جهات مفروض أنها تعمل لأجل السلام، سوف يستمر الدوران في حلقة مفرغة.

ولن يغني الحديث عن الأعراض عن كشف أصل الداء. واتساع نطاق الفساد وعدم قهر الميلشيات وزيادة نفوذ المتطرفين وتراخي بعض الأطراف في مكافحة الإرهاب، من الروافد الرئيسية للمرض الليبي الذي يحتاج لرؤية موضوعية تمهد الطريق لسلام شامل.

وتكاد تكون مصر الدولة الوحيدة التي لها مواقف واضحة ومعلنة من الأزمة. وتنطلق رؤيتها الدبلوماسية من تأييد استقرار الدولة واستعادة هيبتها من جديد ومساندة الشعب في خياراته السياسية، ودعم المؤسسة العسكرية، باعتبارها الجهة الوطنية المتفق عليها.