عصيان الوصايا: قصة التكوين والإبداع

حديث المبدعين عن تجاربهم الخاصة ومراحل التكوين يكتسبُ أهمية كبيرة.
الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس ترفض في مدونتها "أن تكتب الروائي والكتابة" التعاملَ مع عملها المعنون بـ "العاشق" باعتباره روايةً سيرية
التجربة الحياتية تعد حجر زاوية في التكوين الإبداعي والذهني

يكتسبُ حديث المبدعين عن تجاربهم الخاصة ومراحل التكوين أهمية كبيرةً ويستفيدُ طيفُ من المهتمين بالإعمال الأدبية بما يتمُ سرده في كتب السيرة والمذكرات. كأنَّ ما يقدمهُ هؤلاءُ في إطار منجزاتهم الأدبية لا يشفي غليل القراء، وهذا ما يؤكدُ بأن نظرية موت المؤلف لم تعدْ مُستساغة، والدليل على ذلك أنَّ ما يقولهُ الأدباء عن تطورهم الإبداعي ومثاباتهم الفكرية يصبحُ معطيات أساسية يتم على ضوئها فهم عوالم صاحب النص ورؤيته بشأن مفهوم الإبداع. 
هذا إضافة إلى أنَّ القاريءُ يتعرفُ على جانب من شخصية الكاتب، وما يعني له الإشتغالُ في المجال الإبداعي، وقد تجدُ لدى الكتاب رغبةً للتعليق على الآراء السائدة حول بعض نصوصهم الإبداعية، إذ ترفض الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس في مدونتها "أن تكتب الروائي والكتابة" التعاملَ مع عملها المعنون بـ "العاشق" باعتباره روايةً سيرية. ومن ثمَّ تشيرُ دوراس إلى أنَّ الوحدة هي عامل أساسي في عملية الإبداع "ينبغي دائماً وجود عزل بين الكاتب والأشخاص المحيطين به". وهذا ما تؤمنُ به الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي، وهي تتناولُ محطاتٍ من حياتها الإبداعية في كتابها الموسوم بـ "عصيان الوصايا" المرفق بجملة توضيحية "كاتبة تجوب أقاليم الكتابة" وتتعاضدُ العبارة الأخيرة مع العلامة التجنسية "سيرة أدبية" لحصر مضمون النص في الشق الإبداعي من حياة الكاتبة.
وينحوُ الروائي المغربي بنسالم حميش المنحى نفسه في مؤلفه السيري "الذات بين الوجود والإيجاد" حيثُ يذكر في مقدمة كتابه بأنَّ الغالب الأعم لمرويته فكرية ذهنية. ولكن هل تنفصل الخلفية الفكرية والإبداعية عن المكونات الشخصية الأخرى في حياة المفكر والمبدع؟ بالطبع فإنَّ التجربة الحياتية تعد حجر زاوية في التكوين الإبداعي والذهني كما أنَّ تجول في أقاليم الكتابة والفكر يتطلبُ وجود خريطةٍ وأجندة محددة بدونها يستحيلُ استمرار الرحلة.

وأنت تتابع تجربة لطفية الدليمي وتفوقها على نفسها بشق مسالك غير مطروقة، تتأكد بأن النبوغ ليس إلا المقدرة على تحمل الجهد المستمر كما قال بذلك تشارلز ديكنز

عتبة
ظل الإكتشاف والبحث عن أفق معرفي جديد صنفاً من المغامرة التي تروم إختراق الأسيجة الموشومة بالمحرم، وبدأت رحلة لطفية الدليمي مع القراءة بالتسلل إلى ما تسمى حجرة المحرمات حيثُ تصفحت الكتبَ التي كانت تفوح منها رائحة التبغ الخام تستعيدُ الكاتبةَ حيثيات هذه اللحظة المفصلية وتمكنها من فك مغاليق ما كان بالنسبة إليها لغزاً. فإنَّ ملاحقتها لعصفورة تسقطُ من نخلةٍ، وتدخل حجرة المحرمات تصل بها إلى الكنز المدفون بين التبغ والدفوف المستخدمة في الطقوس الدينية.
ومنذ ذلك الحين تصبحُ المعرفة هماً رئيسياً لدى صاحبة "سيدات زحل" وتجد نفسها على عتبة عالم موازٍ للحياة الواقعية. وتتابعُ بالشغف تناسُلَ القصص على لسان شهرزاد وتعجبها شخصية الأخيرة لدرجة تحاول محاكاتها عندما تشرعُ برواية قصص "ألف ليلة وليلة" لضيفات الدار بعدما تنجحُ في تهريب الكتاب من غرفة المحرمات. وتنفتحُ ذائقة الطفلة على الأجواء الروحانية والطقوس الصوفية إذ تشاهدُ حلقات الذكر التي يقومُ بها الدراويشُ وينشأ لديها الحسُ الموسيقي على إيقاع الأناشيد الدينية، ومنذ ذاك الوقت تدركُ ماهية السماع وقوة الموسيقى ومما امتازت به في هذه المرحلة المبكرة هو الإنفتاح على اتجاه فكري جديد من خلال شقيق صديقتها اليهودية، وهو كان مدرساً للغة الإنكليزية أراد إنشاء خلية ثقافية ليعلمَّ أفرادها مقتطفات من لينين ومقولات من الكتب وأناشيد ثورية، وكان الأبُ بدوره يميلُ إلى أن يربي ابنته على المباديء الثقافية الحديثة، وحذرها من الإنسياق وراء الكتب التي تُعطل العقل، وشجعها على قراءة مؤلفات أعلام الأدب المُعاصر. 
إذاً تشربت الكاتبة في بلدة "بهرز" ثقافة هجينة، الأمر الذي يذكرنا بما يرويه إكتور آباد فاسيولينسي في كتابه "النسيان" حيثُ كان يقرأُ له الأب قصة محاكم التفتيش ومقتل جوردانو برونو وقصائد نيرودا، وينصحه أيضاً بالذهاب إلى القداس حتى لا تحزن أمه.
عليه فإنَّ قراءات كاتبتنا تختلفُ وهي تدخلُ مرحلة عمرية جديدة، إذ ينضمُ أندريه جيد إلى قائمة إكتشافاتها، وكانت روايته "قوت الأرض" تلقفها أبناءُ ذلك الجيل. تمكن جيد من أن يمزجَ على بساط نصه الرؤية الصوفية بالنزوع المادية مبشراً بما تجودُ به الطبيعة من المتع المتنوعة. وبدورها تعبرُ فرانسواز ساغان عن شدة إعجابها بـ "قوت الأرض" مشيرةً إلى أنها أول كتاب بين لها ماذا كانت وماذا أرادت أن تكون. 
ومع مضي الوقت تظهرُ أسماء أخرى وتنغمسُ لطفية الدليمي في قراءة الأدب الوجودي، ومن ثمَّ تنفتحُ الحلقة على مزيد قامات أدبية وفلسفية؛ تولستوي همنغواي بايرون هيغل غرامشي، وفي السنوات التالية تتحول إلى دراسة التراث الرافديني وتستلهم منه مادة لأعمالها الإبداعية، ولا تكتفي لطفية الدليمي بقراءة الكتب لتزود بمفردات الثقافة المعاصرة وتجديد الوعي بل تدركُ بأن روافد المعرفة متعددة، ومن هنا يأتي اهتمامها بالموسيقى والطبيعة لأنَّ إنجاز أفكار مستقلة، لا يكون بدون تأمل عميق وخفة في الإدراك. يقول نيتشه "إن الذي لا يستطيعُ التفكير إلا إذا كان الكتاب في يده فهو يفقد القدرة على التفكير المستقل".

novel
مساحة لإضاءة تجارب عدد من الروائيين 

فرادة
لا ينجحُ المبدع في صياغة أسلوب متفرد دون أن يكون واعياً بمجال اشتغالاته ومتابعاً للكشوفات والإختراقات المعرفية، وهذا ما انتبهت إليه لطفية الدليمي إذ لاحظت التطابق فيما كان ينشرهُ مجايلها من الكتاب، وذلك نتيجة لتقارب إختياراتهم في القراءة والعناوين المتداولة في نقاشاتهم ، فبالتالي سادت النمطية في التفكير لدى هذا الجيل بينما هي عاشت تجربة مختلفة زادها السفرُ والقراءات ثراءً بعيداً عن التجمعات والإنتماءات، كما أحجمت عن المشاركة في المناسبات الاجتماعية، وبذلك تكسب مزيداً من الوقت وهو ذهبها الوحيد على حد قول أندريه بريتون. 
لا تتناولُ الكاتبة تجربتها في صحبة أقطاب الفكر والأدب فقط، إنما تقدمُ رؤيتها حول خصائص النصوص الإبداعية، فبرأيها تنهضُ الكتابة الإبداعية المتمرسة على خبرات الكاتب الحياتية ونشاطه التخييلي وخزينه المعرفي ومراسه اللغوي وخلفيته الفكرية، والملمح البارز في العقل الروائي هو تشيكلته المتوازنة من العقل الفيزيائي والتحليلي والحواتي والبصري.
يناقشُ مفصل آخر من الكتاب دور الرواية في العالم اليوم، كما تقعُ على الفرق القائم بين الكتابة الروائية في المركز والأطراف. ويردُ في هذا السياق ما يقوله أرنستو ساباتو عن مهام الأدب العظيم، وهي إيقاظ الإنسان السائر نحو المقصلة. 
ولا تقتصر فوائد الرواية على ما توفره من المتعة بل أن المواظبة على قراءتها ترتقي بمستوى الوعي التحليلي وتحمي المرء من الوقوع في شرك التنميط، هذا ناهيك عن مرونة النص الروائي في استيعاب العلوم والمعارف وتوظيفها في الإطار الفني. كما أنَّ الرواية تدعم التعددية الثقافية حسب رأي الكاتبة، وتصبح دافعاً للإنفتاح على الآخر. 
ضف إلى ما سبق، ترى لطفية الدليمي في الرواية وريثاً للأسطورة، وبما أنَّ الشعوب كلها توسلت سابقاً بالميثولوجيا في بحثها عن المعنى والتمثيل عن خصوصيتها، فإنَّ الرواية تقوم بهذه الوظيفة في الوقت الراهن. مع أن هذا الفن مرجعياته غير ثابتة، لكن ثمة ما يعدُ موئلاً للرواية في موروثنا الثقافي مثل النصوص العرفانية ومؤلفات المتصوفة. 
كانت القراءة الغزيرة غذت الحس النقدي لدى الكاتبة لذلك كتبت نصوصاً كثيرة وأهملتها قبل أن تبادر بنشر أعمالها. وعن طبختها في كتابة رواية "عشاق فونوغراف وأزمنة" تكشفُ بأنها اشتغلت على إعداد موادها لسنتين. ما يعني أنَّ كتابة الرواية لدى لطفية الدليمي باتت صُنعةً تعتمدُ على الدراية والتمكن في الآليات والأدوات السردية.
ما يهمُ الكاتبة في سياق معاينتها للتحولات المفاهمية في الأدب هو رصد واقع التفاعل بين ثيمات الرواية والتطورات العلمية والمعرفية. والمتابعُ لأجندة الكاتبة في مجال الترجمة يجد للنصوص والمواضيع العلمية . أو ما يسمي بالثقافة الثالثة نصيباً أوفر .  إلى جانب إستعادة ما يمكن وصفه بلحظة التأسيس في مسيرتها المعرفية. 
تفردُ الكاتبة مساحة لإضاءة تجارب عدد من الروائيين منهم مويان وباولو كويلو ودوريس ليسنغ وغيرهم. 
يقدمُ هذا الكتاب معلومات حول فن الرواية وأفق تطوره تفيدُ الناقد والقاىء، كما تضيفُ كثيراً إلى المبدع على مستوى الوعي بضرورات الكتابة الروائية.
وأنت تتابع تجربة لطفية الدليمي وتفوقها على نفسها بشق مسالك غير مطروقة، تتأكد بأن النبوغ ليس إلا المقدرة على تحمل الجهد المستمر كما قال بذلك تشارلز ديكنز.