علي المخبلي يتتبع نشأة الأسطورة الدينية وبلورتها في الثقافة الإسلاميّة

الباحث التونسي يتساءل: ما المنزلة التي نزّلت الثقافة العربية الإسلامية آدم فيها؟ وما هي علاقته بالحياة الإنسانيّة التي بدأت معه؟
معرفة تقرّبنا أكثر من رؤية للتراث الإسلامي تبصر بدقّة علاقاته بأنواع التراث الإنساني الذي كان يتحرّك داخله
تعامل الأسطورة الدينيّة مع النصّ الديني مختلف اختلافاً بيّناً عن تعامل علم الكلام معه
جدّيّة المبحث الديني في الأسطورة الدينيّة ضعفت بشكل كبير لصالح العالم العجائبي

ما المنزلة التي نزّلت الثقافة العربية الإسلامية آدم فيها؟ وما هي علاقته بالحياة الإنسانيّة التي بدأت معه؟ وما أهميّة هذه الحكاية بالنسبة إلى المجتمع العربي الإسلامي وتطوّره؟ ما علاقة الأسطورة الدينية الإسلاميّة، التي تخبرنا عن آدم، بالتاريخ الثقافي العربي الإسلامي من ناحية، وبالتاريخ الثقافي العام من ناحية أخرى؟ 
ويدفع هذا التساؤل إلى إلى سؤالين مهمّين: أوّلهما: كيف ساهم التاريخ في إنتاج هذه الأسطورة الدينية؟ ويقود هذا التساؤل إلى النظر في نشأتها والروافد التي ساهمت في بلورتها في الثقافة الإسلاميّة، وإلى إقامة مقارنات بين نصوص الثقافة الإسلاميّة ونصوص سائر الثقافات. وثانيهما: ما دلالات الرموز التي تتحرك داخل هذه الأسطورة الدينية؟
يحاول هذا الكتاب "آدم والتاريخ" للباحث التونسي المتخصص في الحضارة الإسلامية علي المخبلي أن يهتمّ بجوانب من المخيال الإسلامي التي هي استجابة وفعل في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ناظرا في مستويات دلالات الرموز ومقارنتها بالدلالات التي تحملها في الثقافات السابقة أو المعاصرة للثقافة العربيّة الإسلاميّة. ليشكل مدخلا ضروريّا لمعرفة عالم المتخيّل الديني الإسلامي وبناه الأنثروبولوجيّة، وهي معرفة تقرّبنا أكثر من رؤية للتراث الإسلامي تبصر بدقّة علاقاته بأنواع التراث الإنساني الذي كان يتحرّك داخله، وتدرك بعمق نسبيّة تصوّراته وتاريخيّتها. 

الملاحظ من تطوّر الحكاية الأسطوريّة أنّها بدأت في مراحلها الأولى منتمية إلى الخطابات العالمة، فكانت بذلك خاضعة لمنهجيّة التحديث

ومن ثم فهو يغطّي نقصاً كبيراً في الدراسات الأكاديميّة الخاصّة بالتراث الإسلامي، إذ لم يتّجه إلى دراسة المتخيّل في الثقافة الإسلامية؛ بل ركّز على المتخيّل خصوصاً، ولم يكتفِ بدراسة خطابه وبيان مميزاته العامّة بل سعى إلى رسم تاريخ نشأته وتطوّره وصولاً إلى القرن الثاني عشر الهجري (الثّامن عشر الميلادي)، ولم يعمل على تحليل بعض الأخبار التي تؤثّثه بل عمل على تفكيك مياثمه وتدقيق دلالات رموزه، والكشف عن بناه السطحيّة والعميقة. فكان أن قارب موضوعه بقراءتين الأولى تاريخيّة محّص من خلالها إشكاليّة التاريخ والذّاكرة كما تحضر عند بول ريكور، والثّانية سيميائيّة ناقش فيها بطريقة صامتة مقاربة جيلبير دوران للبنى الأنثروبولوجيّة للمتخيّل.
وأكد المخبلي في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن النظر في الأسطورة الدينيّة ليس إلا مرحلة تنظر لواحقها، إذا أردنا أن نستكشف آليّات التفكير التي يوفّرها المخيال، في سائر الأساطير كالأساطير  السياسيّة، أو الأساطير الأدبيّة، أو أساطير المظاهر الطبيعيّة وأساطير الحيوان. والاعتناء بها في تحليل الأساطير العربيّة الإسلاميّة يعود إلى أهميّتها في تشكيل الوعي الديني من جهة، والوعي الوجودي الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى. وقد استلزم الوعي بأهميّتها السعي إلى مقاربتها بطريقتين الطريقة التاريخيّة والطريقة التأويليّة في محاولة لمحاصرتها زمانيّاً وآنيّاً، في تطوّرها التاريخي وفي غناها الرمزي. 
وقد فرضت علينا المقاربة التاريخيّة أن ننتبه إلى المدوّنة الأسطوريّة التي سبقت نشأة الحضارة العربيّة الإسلاميّة؛ إذ أحالتنا نصوص مدوّنتنا السنّيّة منذ البداية على نصوص أهل الكتاب، التي دفعتنا إلى أساطير بلاد الرافدين ومصر الفرعونيّة، وفتحت لنا نصوص المدوّنة الشيعيّة بمذهبيها نصوص الأساطير الفارسية والهنديّة، التي نبّهتنا إلى نصوص أساطير اليونان. 
ولفت إلى أن أهمّ نتائج البحث في المدوّنات ثلاث نتائج: الأولى تتعلّق بما جاء قبل وجود الإنسان الأوّل، وهو ما يُعرف بصراع الآلهة أو العمالقة. ونرى ذلك في الثقافة البابليّة والهنديّة والفارسيّة واليونانيّة، ولا نلحظ لها وجوداً في أساطير أهل الكتاب. وكانت طبيعة هذا الصراع طبيعة سياسيّة أفرزت ارتباط خلق الكائن الجديد بالمجال السياسي، سواء طاعة للآلهة وخدمتهم، كما هو الأمر في الحضارة البابليّة واليونانيّة، أم كان الأمر متعلّقاً بكونه الحاكم الذي يخلف من كان في الأرض كما نرى ذلك في الثقافة الفارسية والفرعونيّة.
النتيجة الثانية تتعلّق بالتساؤل عن طبيعة العلاقة بين السماء والأرض في الأساطير القديمة، ويبدو أنّها جميعاً تقرّ بالانفصال بينهما خصوصاً بعد خلق الإنسان؛ إذ تبدو مهمّة الإنسان العمل الفلاحي أساساً في الحضارة البابليّة، وهو ما سيريح بعض الآلهة التي لا يُذْكَرُ مصيرها بعد 'تقاعدها' عن العمل، وهو ما يعني أن بقاءها في الأرض - إن بقيت - لم يعد مهمّاً أو ذا أثر على من يعيش فيها. 
أمّا انفصال الآلهة عن الأرض، في الحضارة الفارسيّة واليونانيّة والفرعونيّة، فبيّنٌ لأنّ الإنسان، فيما عدا الملك، لا علاقة له بآلهة السماء إلا من باب العبادة، وأنّ الآلهة - وإن كان لها من ينوبها في الأرض- بعيدة هناك في الأعالي، ولذلك كان على مَن ينوبها أن لا يختلط دمه بدماء سائر الموجودات حتى لا يتدنّس جانبه الإلهي. 
وتُبْرِزُ النتيجة الثالثة مرور الوجود الإنساني على الأرض بمراحل قد تصل إلى آلاف الأدوار في الثقافة الهنديّة، أو خمس مراحل عند اليونان، ولكنّها في الغالب لا تتجاوز المرحلتين مرحلة الإنسان الكامل، ثمّ مرحلة الإنسان المريض "الأساطير البابليّة"، ومرحلة الرجل السعيد، ثم الزوج المبتلى "الأساطير اليونانيّة"، أو مرحلة أهورامازدا الخالد، ثم جيومرث الملك الفاني، ثمّ مرحلة ميشا وميشانة "الأساطير الفارسيّة"، أو مرحلة الإنسان السعيد في الجنّة، ثمّ مرحلة الإنسان المبتلى المطرود منها إلى الأرض "الأديان التوحيديّة الثلاثة". 

إنتاج الأسطورة
لا نجد إمكاناً لبقاء آدم مذنباً

ورأى المخبلي أن أغلب هذه الأساطير تتشابه في أنّ هذا التحوّل من مرحلة موجبة إلى أخرى سالبة راجع إمّا إلى فعل يأتيه الإنسان ضدّ الإله، وإما إلى فشل في اختبار معلن أو غير معلن؛ فجيومرث الفارسي يتمرّد على ربّه، وبروميثيوس يتمرّد على زيوس، ويكون خلق الإنسان جزءاً من ذلك التمرّد، ويكون وجود باندورا حوّاء الأساطير اليونانية، بسبب فشل إيبيميثيوس أخي بروميثيوس في الاختبار الذي وضعته الآلهة له، ويسقط آدم بسبب فشله في المحافظة على عهده مع الله ألا يأكل من الشجرة المحرّمة. 
غير أن الفرق بين الأساطير البابليّة والأساطير اليونانيّة من جهة، وأساطير العهد القديم اليهودي وما أخذ عنه من جهة ثانية، يكمن في أن التحوّل الذي أصاب الإنسان كان تحوّلاً مأساويّاً؛ ذلك إنّ وجود الإنسان المصاب بالعاهات، في الأساطير البابليّة، راجع إلى سكر الإله أثناء فعل الخلق، وليس أمراً بسبب فعل أتاه الكائن الجديد، ثمّ إنّ العقدة المأساويّة لم تصب في أساطير اليونان الإنسانَ؛ بل أصابت بروميثيوس الذي أراد من الإنسان أن يكون في الدرجة العليا، فعصى من أجله إرادة زيوس، وتمرّد على رب الأرباب وفشل، في حين أنّ آدم عاش مساراً مأساويّاً تامّاً يظهر أساساً في أنّه أراد بفعله ما لم يرده له الله، فكان بفعله ذلك واقعاً في ما أراده له الله شأن ما كانت عليه مسيرة أوديب، الذي كان يريد أن يفرّ من قدره، فإذا بفراره ذاك وقوع فيه. 
ولعلّه كان مقبولاً أن لا يتوب آدم في التصوّر المسيحي الذي تكوّن في الفضاء اليوناني، أو لا تقبل توبته، ولا يقام معه العهد، حتى يأتي زمن إبراهيم أو إسحاق، فيقام معهما عهد الربّ مع شعبه. ولكنّ الأمر في الأسطورة الدينيّة الإسلاميّة مختلف؛ إذ لا نجد إمكاناً لبقاء آدم مذنباً؛ بل إن فعله في الأرض من أجل تثبيت تلك التوبة، والوصول بها إلى منتهاها المنتظر، وهو العودة إلى الجنّة. إنّ التوبة تعضد الوصل الذي بنيت عليه الأسطورة الدينيّة الإسلاميّة بين السماء والأرض.
ولفت إلى أن القراءة التاريخيّة للمدوّنة السنيّة والشيعية أفضت إلى تبيّن أن القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) كان قرن اكتمال النظر في الأسطورة الدينيّة، وقد بدا ذلك من خلال الكسائي والراوندي في "قصص الأنبياء"، والحامدي في كتابه "كنز الولد"، أو علي بن الوليد من خلال "الذخيرة في الحقيقة". 
ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء الأعلام علماً صوفيّاً لا إنكار لأهميّته وهو محيي الدين بن عربي، وكتاباً لا إنكار لخطورته هو "فصوص الحكم" الذي شُرِحَ أكثر من مئة شرح. كان هذا القرن بحق حبكة تطوّر الأسطورة الدينيّة الإسلاميّة وعقدتها، ففيه تجلّت كل مياثم الحكاية وتفاصيلها في صياغة سرديّة تامّة لا تقطعها، إلا أحياناً، الإحالات على الرواة أو غيرهم، وقد تداخلت العناصر التي كانت تميّز المذاهب في القرون السابقة في هذا القرن، فكان أن رأينا اعتزال الراوندي، وعرفانيّة ابن ميثم البحراني، وهما من الإماميّة، وكان أن توافرت في الكسائي ما يمكّن من تنازع ولائه بين السنّة والشيعة، دون إلغاء سعيه إلى الاعتبار شأن سعي الجاحظ المعتزلي في كتابه "الحيوان"، وتوافرت في الحامدي وعلي بن الوليد ما يجعله إسماعيليّاً عرفانيّاً. 
وتكمن أهميّة هذا الأمر في أنّه يؤطّر الأسطورة الدينيّة تاريخيّاً في صلب التطوّر الثقافي العربي الإسلامي، فهي ليست على هامش التاريخ، ولا هي من الموضوعات التي تحتلّ الدرجة الثانية من اهتمام أهل العلم والمعرفة، لقد حظيت بالعناية لأنّها استجابت لجملة من الاهتمامات التي كان الفكر الإسلامي في حاجة إلى الإجابة عنها، وأهمّها السؤال السياسي، ومشغل الاستقلال، وتحصين الذات. 
وخلص المخبلي إلى أن الملاحظ من تطوّر الحكاية الأسطوريّة أنّها بدأت في مراحلها الأولى منتمية إلى الخطابات العالمة، فكانت بذلك خاضعة لمنهجيّة التحديث، دون أن يكون هذا الخضوع على الدرجة نفسها عند أعلام المدوّنة، وانتهى بها التطوّر متحرّرة من كلّ قيد غير قيد المتعة وتحقيق الإشباع، سواء تمّ هذا الإشباع أو تلك المتعة ضمن خطاب جادّ "تفسير السيوطي، أو تاريخ العصامي، أو قصص الجزائري"، أم ضمن خطاب قصصي "شعبيّ" شأن "بدائع" الحنفي. 
وينبغي أن نقرّ أن "جدّيّة" المبحث الديني في هذه الأسطورة الدينيّة قد ضعفت بشكل كبير لصالح العالم العجائبي، الذي كانت قادرة، ويبدو أنّها هي الوحيدة التي كانت قادرة في المجال الديني الذي يهمّنا، على فتحه واستقصاء جوانبه العميقة. إن ضعف المادّة الدينيّة العلميّة، الذي يظهر في الاكتفاء بالحواشي والمختصرات المطلسمة، قد ترك المجال للخيال لينفتح على عوالم منع منها تحت عناوين متنوّعة كتحريم الخوض في الغيبيّات أو تحريم الاستفادة من أقوال المخالفين في المذهب أو الدين. 
ويدْعَم هذا البعد في إنتاج الأسطورة عن التأويل الرسمي للنصّ الديني، على ما في هذا التأويل نفسه من اضطراب واختلاف كما رأينا، البعدُ عن التأويل الرسمي للمذهب ومقولاته الكبرى، سواء كان ذلك عند السنة أم الإماميّة، فتعامل الأسطورة الدينيّة مع النصّ الديني مختلف اختلافاً بيّناً عن تعامل علم الكلام معه، فلئن احتكم الثاني إلى مقولات مضبوطة نُحتت عبر التاريخ، وعبر مجالس جدلٍ لا يُحصى عددها، وعبر مبدأ عدم التناقض أو الاضطراب في القول المنافح عنه أو به، فإن الأوّل يحتكم إلى إرضاء السامع سرداً وإشباعه نفساً دون الاحتياط من الأخذ عن غير أهل المذهب؛ بل لعلّه لم يعد للمذهب سلطان على القصص؛ وهو ما قد يؤدّي إلى ضعف سلطان النصّ الديني ذاته على فعل القصّ والحكاية، فيصبح النصّ الديني مجرّد منطلق أو مرجع شأنه شأن نص أهل الكتاب الديني أو نصوص أساطيرهم المتفرقة.