عمار علي حسن يعري العالم

كتاب "عالم في العراء: الإعلام الجديد والثقافة والمجتمع" يضم عددا من الدراسات المتنوعة ومقالات معمقة في الإعلام وأحوال المجتمع العربي.
الثورة الرقمية حولت العالم إلى غرفة صغيرة تأخذ أي أزمة من طور "المحلية" إلى "العالمية" في ثوان معدودات
 ضخ هائل للأخبار والآراء والمعلومات تصنع ما يمكن تسميته بـ "الرأي العام العالمي"

انطلق الباحث د.عمار علي حسن في كتابه "عالم في العراء: الإعلام الجديد والثقافة والمجتمع" الذي ضم عددا من الدراسات المتنوعة ومقالات معمقة في الإعلام وأحوال المجتمع العربي وأخرى حول الثقافة وأحوالها، من تصور يرى أنه لا يوجد في عالم اليوم "إعلام معزول" فالثورة الرقمية التي حولت العالم إلى غرفة صغيرة تأخذ أي أزمة من طور "المحلية" إلى "العالمية" في ثوان معدودات عبر الضخ الهائل للأخبار والآراء والمعلومات لتصنع ما يمكن تسميته بـ "الرأي العام العالمي" لاسيما في القضايا الإنسانية والسياسية والحقوقية التي تتكرر عبر الأزمنة والأمكنة، أو تلك غير المألوفة التي تثير الدهشة والاستغراب، ولا يمكن التعمية عليها مهما كان في ظل رواج وسائل التواصل الاجتماعي.
ورأى عمار في الكتاب الصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، أنه إلى جانب تأثيره في المسائل الخاصة بالتقارب بين الناس، وانسياب الأفكار وطرائق العيش، وسيادة الدول، والحروب الذكية، يمارس الإعلام الجديد ثلاثة أمور أساسية أثرت في القيم والتصورات والاتجاهات، الأول يتعلق بتعزيز التفكير الشبكي، وهي طريقة تعترف بالتجاور والتعدد والتشابك والتناظر، بدلا من التفكير الخطي، الذي ينطلق بين نقطتين، علوية وسفلية، أو جنوبية وشمالية، أي رأسية وأفقية، وهي التي تآلف معها التفكير البشري زمنا طويلا. والثاني يرتبط بفتح باب المشاركة وتسهيل الفواصل بين النخب والجمهور، فقديما كان من الصعب على قارئ أن يتواصل مع كاتب بارز، أما الآن فبوسعه أن يعلق على ما يكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي ويراسله على بريده الخاص. والثالث يتمثل في تحرير الأذهان، فمن قبل كان المتلقي يستقبل الرسالة وقد يستحسنها لأنه لم يفكر في نقائصها، ولا يعرف بديلا لها، أما الآن فإنه يجد، وفي سرعة شديدة، آخرين يرممون له ما يعانيه من نقص حيال فهم الرسالة واستيعابها، وقد تؤدي تعليقاتهم عليها إلى أفول سحرها، وانطفاء بريقها، والأهم هو تقليل قدسيتها وإطلاقيتها ووثوقيتها في ذهن المتلقي بسيط المعرفة.
وقال إنه عند هذا الحد يكون الإعلام الجديد هو ابن شرعي لليبرالية، لاسيما في قيمها الأساسية التي ترتكز على المواطنة، والمراكز القانونية المتساوية، والمشاركة الواسعة، واحترام حرية التفكير والتعبير والتدبير، والانفتاح على الآخر، والتعددية، واللامركزية، والمساءلة، والشفافية، والسوق المفتوحة، والحكومات المفتوحة أيضا.. الخ. ومع هذا لا يزال من المبكر جدا معرفة ما إذا كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية سينظر إليها بدرجة أكبر باعتبارها أدوات للتحرر أو أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية، بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية.

قدرة الإعلام على الإسهام في مواجهة الأزمات، أو حتى استعداده لاندلاعها في أي وقت، لا يمكن أن يكون منبت الصلة عن المبادئ التي يتسم بها الإعلام الفعال

وعرج عمار تفصيلا على تأثير الإعلام الجديد، لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، على قضية الديمقراطية والحريات العامة، وكذلك حول ما في حالتنا الاجتماعية من آثار تمتد من "الأبوة" المطلوبة إلى "الأبوية" المرفوضة، ثم يعرج على ثقافة التسامح من حيث تعريفها وتجربتها في الشرق والغرب ومعوقاتها والقيم المرتبطة بها وأشباهها، وكذلك اللغة كمدخل فلسفي لفهم كثير من المعاني والأشياء.
وأضاف "ضغط موضوع الإعلام بشدة على العقول والنفوس والأوقات في السنوات الأخيرة بعد أن صار قوة لا يستهان بها، لاسيما مع وسائل التواصل الاجتماعي. وقد انبرى الإعلاميون النبهاء إلى نقاش قضايا الحرية والحيادية والارتقاء المهني، حيث بدا الجميع متفقين على أنه لا إعلام من دون حرية، وأن قدرا معقولا من الحيادية مهم للإعلام كي يؤدي دوره المهني على الوجه الأكمل، وأن المال وحده لا يصنع إعلاما ناجحا، وأن الشفافية وانسياب المعلومات بلا كوابح ولا حواجز أو قيود عملية ضرورية لإيجاد إعلام قادر على المنافسة، يتمتع بالمصداقية، ويتحرى الدقة في كل ما يطرحه، ويحترم عقلية المتلقي، ويدافع عن حقه في معرفة ما يجري. 
وأكد عمار على ضرورة فهم عملية الاتصال بوجه عام في ضوء الأخذ والرد حول استشراف أثر التطور التكنولوجي والثورة التقنية التي شهدها عالم الاتصال في العقد الأخير، والتي أزاحت من طريقها مفاهيم قديمة عن الإعلام، وجرفت أمامها تصورات طالما ربطت بين الإعلام والسيادة، وخلطته بالدعاية والوعظ، وأخضعته للرقابة الشديدة التي تسببت في حجب المعلومات عن الناس، في ظل الوظيفة التي تحددها السلطة للإعلام المحلي. 
وأوضح أنه قد بدت الكوابح التي ترمي إلى الحد من أي آثار سلبية لهذه الثورة، مثل ميثاق الأمم المتحدة، والدساتير والقوانين الوطنية، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية، ضعيفة أمام قدرة شبكة المعلومات على اختراق الحواجز، وتحدي السيادة الوطنية، فالفضائيات التي باتت حقلا مربحا للاستثمار، تنقلها الأقمار الصناعية إلى كل مكان، من دون أي عناية بالمفهوم التقليدي لسيادة الدول، ولا مراعاة لأي خصوصيات تصنعها الأديان والتقاليد والأعراف، والإنترنت تطور بمجتمع المعلومات من الحاسوب الشخصي إلى الطريق السريع للمعلومات، وفتح الباب أمام استخدام وسائل إعلامية أسرع وأشد انتشارا ونفاذا في الحرب والدعاية، وفي التجارة الإلكترونية، وفي مجالات خدمية مثل الطب والتربية والتعليم.. إلخ، ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتعطيه أفقا أوسع.
وأشار عمار إلى أن الإعلام الجديد هو ابن شرعي لليبرالية، لاسيما في قيمها الأساسية التي ترتكز على المواطنة، والمراكز القانونية المتساوية، والمشاركة الواسعة، واحترام حرية التفكير والتعبير والتدبير، والانفتاح على الآخر، والتعددية، واللامركزية، والمساءلة، والشفافية، والسوق المفتوحة، والحكومات المفتوحة أيضا.. الخ. ومع هذا لا يزال من المبكر جدا معرفة ما إذا كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية سينظر إليها بدرجة أكبر باعتبارها أدوات للتحرر أو أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية، بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية.
وتابع أن الثورة الاتصالية عملت على "توسيع المشاركة الشعبية في صناعة الإعلام، بما جعلنا نشهد ما يمكن أن يسمى بــ "المواطن الصحافي"، إذ بوسع أي شخص أن يكتب ما يشاء ويبثه على الإنترنت في موقع خاص أو مدونة أو حتى في تعقيب على مقالات الكتاب، وأخبار وتقارير وتحليلات وتحقيقات الصحافيين. وهذا الاتساع حقق كل ما حلم به من كتبوا منذ عقود عن "مسرح المقهورين" متخيلين ومطالبين بأن يشارك المتفرجون في صناعة النص المسرحي وتمثيله. 

الإعلام
عمار علي حسن

ولفت عمار إلى أن هذه الثورة أيضا عملت على "ظهور تحدي للسلطة السياسية، عبر منازعتها في امتلاك وسائل الإعلام، والرد عليها حين تستخدم هذه الوسائل في التعبئة والحشد وتبرير السياسات القائمة، وتزييف الوعي في شقه المناهض للاستبداد والفساد. وهنا يكسر الإعلام الجديد تسلطية وأحادية ورسمية وقدسية أهداف الإعلام القديم المزعومة، ويضغط على السلطة من أجل تحسين الأوضاع القائمة، وتغييرها بما يؤدي إلى مزيد من الحرية والكفاية. وقد بلغ الإعلام في هذا حدا عاليا، إلى درجة أنه بات يمثل الرقيب الحقيقي على أداء الحكومات، في ظل نظم تتراوح بين الشمولية والطغيانية، حولت البرلمانات إلى مقاه عامة، وسلبتها وظيفة المراقبة، ووظفت دورها في تشريع القوانين لخدمة من هم في سدة الحكم وتابعيهم.
وشدد على أن الإعلام الجديد الذي تتآكل قدرة السلطة المستبدة عن حصاره وتقويضه وإسكات صوته، يؤدي بالتتابع إلى تعزيز الحريات الثلاث حول التفكير والتعبير والتدبير، إذ إنه يساعد الناس على الاطلاع على ما يجري في مختلف أرجاء المعمورة من طقوس وطرق تفكير وتصرف، وتفتح أمامهم بابا وسيعا ليعبروا عن آرائهم، ثم يمنحهم وسيلة مهمة لممارسة النضال المدني، حيث يعينهم على التواصل والتعبئة والتحريض على معارضة النظم المستبدة. لكن الإنترنت تظل هنا مجرد وسيلة وليست غاية، فالدعوة إلى العصيان المدني والإضرابات والاعتصامات من خلال الإنترنت، إن لم تتبعها استجابة في الواقع فإنها تفقد معناها.
لم يقتصر عمار علي حسن في كتابه على موضوع الإعلام فقط، بل تضمن تراجم أو ملامح لبعض الشخصيات الأدبية، ومقاربات نقدية حول موضوعات شغلت الرواية العربية مثل التصوف والريف وحال الأقليات الدينية. كما يطرح رؤى نظرية حول أشكال الكتابة ومستقبلها، والنصوص ثلاثية الأبعاد، وتلك التي تُكتب عن الأشياء من الخارج، وما آل إليه الشعر العربي من أزمة، وبعض الظواهر الثقافية السلبية التي أصابت حياتنا في زمن الاستهلاك المفرط، وعلاقة الرواية بالسلطة من حيث الشكل والمضمون، والعناق الأبدي بين الأدب وعلم النفس، وأصناف القراءة والقراء، ووصف مصر ثقافيا، ومظاهر خصام المتطرفين للفنون والآداب، والفروق الجوهرية بين ثقافة السُترة وثقافة الندرة.
وخلاقا لكثير من مؤلفات الكاتب التي يدور كل منها حول قضية أو موضوع واحد يعمل على توصيفه وتعميقه وتقديم الجديد فيه، فإنه في هذا الكتاب بدت لديه رغبة في جمع بعض دراساته ومقالاته، كما يفعل أحيانا، وهي مسألة عبر عنها في المقدمة قائلا: "تتزاحم في رؤوسنا الأفكار، حين نتابع أحداثا تجري بلا هوادة، ونقرأ كتبا تقذفها المطابع إلى أرفف المكتبات، وحين نجلس ساعات نتأمل فيها أنفسنا فنبصر ما جهلناه أو نسيناه، وننظر في أحوال غيرنا، وما نسمعه منهم، وما يجري حولنا، ويمس شخوصنا أو مصالحنا، ومصالح ذوينا".
وأضاف "يحتاج هذا التزاحم إلى الإفراج عنه حتى لا نصاب بـ "حبسة فكرية"، فنطلقه فيما نبحث فيه ونكتبه بغية المشاركة في ندوات ومؤتمرات علمية وثقافية، أو لإلقاء محاضرة في جامعة، أو وقت أن يكون علينا أن نكتب لصحف أو مجلات تنتظر مقالاتنا المنتظمة، أو حين ننفعل بقراءة كتاب أو رواية ما، أو تروق لنا تجربة إبداعية وإنسانية لكاتب أو باحث، ونود أن نعبر عن هذا الإعجاب كتابة، أو حتى لا تروق لنا، ونريد أن نسجل ذلك صراحة، ويعد الكتاب تطبيقا عمليا لمثل لهذه المسألة".
في العموم يجب أن ينشعل الإعلام بثلاثة أشياء أخرى وهي: القيم أو المبادئ، والمحتوى، وصانعو الإعلام أو العقول التي تقف وراء إنتاج الرسالة التي يقصد بها الجمهور. فقدرة الإعلام على الإسهام في مواجهة الأزمات، أو حتى استعداده لاندلاعها في أي وقت، لا يمكن أن يكون منبت الصلة عن المبادئ التي يتسم بها الإعلام الفعال من حرية التفكير والتعبير والإتصاف بالنزاهة والحيادية والتوازن، ووجود محتوى يتسم بالرسوخ والنضح ويمثل قضايا الناس الحقيقية، ويعمل على تحقيق التنوير والتقدم، وكذلك وجود أشخاص مهرة متمرسين يقفون وراء إعداد المحتوى ودفعه إلى متلقيه. 
ولعل ما يتعلق بهذه القيم وهذه المبادئ والتقاليد المرعية في صياغة الرسائل الإعلامية، هو ما يجب أن يمثل أـسئلة حقيقية، من المهم أن يجيب عليها الإعلام العربي عموما إن كان يسعى حقا إلى قطع الطريق على إعلام لا يمتثل بالضرورة لقيم المجتمع الراسخة، ولا يلتفت لحاجة الناس إلى لون من الإعلام يعبر عنهم. 
يشار إلى أن "عالم في العراء" هو الكتاب الـ 26 لعمار علي حسن، وهي كتب توزعت على علم الاجتماع السياسي والنقد الثقافي والتصوف، علاوة على عشرين عملا أدبيا عبارة عن إحدى عشرة رواية وسبع مجموعات قصصية وديوان شعر وسيرة ذاتية سردية.