عندما يكون الدور الإقليمي مفتعلا

ثمة دور واع إذن مثل الذي تقوم به مصر، وثمة اختلاق للدور كالذي تصنعه إيران.

هناك مسافة شاسعة بين قيام دولة ما بدور إقليمي مؤثر، وبين العبث بشؤون دول أخرى. في الأولى، تستمد تحركها من قوتها المتعددة وكفاءتها الرشيدة وزعامتها الحقيقية. وفي الثانية، من أطماحها وأحلامها ورغبتها في الهيمنة بدون وجود أساس متين تعتمد عليه للوصول إلى أهدافها. وكي يبدو الحديث واقعيا أضرب مثلا بالتوجهات الإقليمية لكل من مصر وإيران.

أعلم أن أوجه المقارنة لا تروق للبعض، لكنها ضرورية في ظل التطورات المتلاحقة، والفرص التي لاحت لكل طرف. ومهمة في سياق استخلاص العبر والدروس، لأن الدور الإقليمي لأي دولة كبيرة تريد الحفاظ على مصالحها الإسرتاتيجية عملية يصعب التفريط فيها، طالما توافرت لها الأسس اللازمة والمساعدة للقيام بالدور المنوط بها، وفي حدود قدراتها الحالية والمستقبلية، حتى تتجنب طاقة غضب داخلية، أو ترتد إلى صدرها فجأة تحركات إقليمية مضادة. فالحسابات الدقيقة مهمة عند الانخراط في أدوار خارجية.

لقد توافرت لمصر خلال السنوات الماضية فرص عديدة للتدخل في أزمات كثيرة، وكانت لديها قدرة هائلة للمساهمة في حسم بعض الصراعات، وقدمت لها مغريات سخية للتورط بخشونة في كل من سوريا وليبيا واليمن، ومنطقة الخليج في مواجهة إيران، غير أنها فضلت التمهل، حيث شعرت كأن هناك فخاخا منصوبة لها، أو إجبارها لتنزلق في مستنقعات يصعب الخروج منها بسلام. سعت إلى ترتيب البيت من الداخل أولا، ونجحت في قطع شوط كبير في المجالات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وأعادت تصويب المسارات السياسية الخاطئة.

مع ذلك، لم تبتعد عن مراقبة الأزمات المحيطة بها، وارتداداتها المباشرة وغير المباشرة على الأمن القومي المصري، بل كانت لها أدوار مختلفة في بعض النزاعات دون أن تنغرس رجليها فيها أو إحداها، ومارست دورها الإقليمي تدريجيا. وأغضب هذا التوجه البعض ممن شعروا أن مصر أمامها فرصة لتأكيد زعامتها في المنطقة. ودارت حوارات بين من رأوا التعجيل بخروجها لممارسة دورها التاريخي، ومن أيدوا التقوقع والمزيد من الحذر في التعامل مع نزاعات تتسم بقدر كبير من السيولة السياسية والأمنية.

لست بصدد تقييم الرؤتين، وأيهما على صواب. في كل الأحوال، لم تهمل مصر إعادة بناء قدراتها الداخلية في المجالات الحيوية، ولم تتجاهل توفير الإمكانيات العاجلة لأذراعها العسكرية، ولم تتورط في أزامات خارجية تلهيها عن استكمال المشروعات القومية المتوقع أن تحدث تحولا كبيرا في البيئة الإستراتيجية المحلية، بحيث تكون مستعدة لمواجهة جميع التحديات على الصعيد الخارجي، وتأخذ زمام المبادرة وتقوم بدورها عندما يحين الوقت. وهو ما يقودنا إلى تنظير سياسي قد لا يكون هذا محله الآن، حول حدود المبادرة والاستدعاء في عملية الدور الإقليمي.

رسمت التصورات المصرية طريقها بصورة محكمة ومتوازنة مع القوى الخارجية، من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وهي في قمة انهماكها في ترتيب الأوضاع الداخلية ومكافحة الإرهاب، ولم تستجب لمحاولات استفزازها وجرها للتخلي عن مرونتها في التعامل مع بعض الأزمات الإقليمية. واصلت رياضة التريث لأقصى مدى، وحرصت أن تكون موجودة وغير متورطة حتى النخاع، وهي معادلة مثيرة تديرها مؤسسات الدولة الوطنية بنجاح.

في المقابل، استجابت إيران لكل المغريات التي أتيحت أمامها. تمددت في أربع دول عربية، العراق وسوريا ولبنان واليمن، واقتربت من غيرهم. تفاخر قادتها بارتفاع صوتهم في عواصم الدول الأربع، وبنوا جبهات دينية خاصة بهم، وتحالفوا مع طوائف وقوى وأحزاب وشخصيات تأتمر بأوامر طهران، وأثرت في القرارات التي تخرج من الدولاب الرسمي في هذه الدول.

وتمادت في ممارسة لعبة السيطرة على مقاليد الأمور، وربما الإذلال، وحسبت أن تدخلاتها السافرة مكنتها من فرض كلمتها. ولذلك بالغت في التوسع، ورهنت الكثير من التصرفات بإرادتها، مهما تعارضت مع المصالح الوطنية لهذه الدولة العربية أو تلك. ومدت بصرها إلى منطقة الخليج وأفريقيا وآسيا. نجحت وأخفقت نسبيا، وبدت في النهاية راضية عما وصلت إليه من جنوح، وأغرتها مكاسبها على تحدي إرادة المجتمع الدولي في الاتفاق النووي، وعدم الاكتراث بتلقي المزيد من العقوبات الاقتصادية.

جاءت لحظة مكاشفة نادرة خلال الأسابيع الماضية، حيث بدأت الأرض تهتز تحت أقدامها في كل من العراق ولبنان وبالطبع سوريا. والأخطر أن النيران لحقت بثوبها في الداخل، عقب اندلاع مظاهرات رفعت الغطاء الذي حاولت طهران وضعه فوق رأسها لحماية نظامها السياسي. وتوشك أن تتجرع من كأس السم الذي تجرع منه غيرها، وأصبح موقفها خطيرا، لأن أدوات القمع التي استخدمت في قبل في أعوام 1999 و2009، و2017، لم تعد مجدية. الأجواء مختلفة، والعواصف عاتية، والأمر مرشح لمزيد من الانفلات والفوضى.

توافقت الاحتجاجات في العراق ولبنان وإيران على كسر العصمة الدينية، والتصدي للتدخلات التي قامت بها طهران في شؤون الدول الأخرى. أخذت الفضائح تتوالى حول شكل العلاقة التي تربط أجهزة المخابرات الإيرانية وشخصيات إخوانية وسياسية في دول عدة، بهدف ممارسة هوايتها في التخريب والتدمير، وإيجاد دور إقليمي مفتعل لها في المنطقة، بعيد تماما عن المهام الرئيسية لأي دولة تريد أن تملك رصيدا مؤثرا.

حانت ساعة المواجهة، فالطريقة التي حاولت من خلالها طهران القيام بدور إقليمي لم تستند على مقومات طبيعية، ولجأت إلى اختلاق الحيل، وتبني نهجا سياسيا مراوغا، ورعاية ميلشيات وكتائب مسلحة لتطويق المؤسسات الأمنية التقليدية، وتتمكن من زيادة دورها، وأنفقت على كل هؤلاء ببذخ من أموال الشعب الإيراني الذي يعاني من تدهور اقتصادي خطير، دفعه إلى رفع شعارات تطالب بسقوط الولي الفقيه، والديكتاتور، والجمهورية الإسلامية، والتنديد بالإنفاق على الحروب والنزوات الخارجية.

ثمة دور واع إذن مثل الذي تقوم به مصر، وثمة اختلاق للدور كالذي تصنعه إيران. وعندما يكون الدور الإقليمي مفتعلا ويتجاهل القواعد والمحددات الداخلية سوف يحرق أصابع أصحابه، ويفضي بهم لدوامات طويلة من المشكلات السياسية، فمقادير الدول ترسمها القيادات العاقلة والحريصة على أمن بلادها القومي أولا، وكل تطلعات خارجية لابد أن تكون محسوبة. ففي عالم اليوم المتشابك هناك مكونات كثيرة تتحكم فيه ليس من بينها العبث بمقدرات الشعوب الأخرى وإذلالها.