عن العشق وذم الهوى وأمراض الخلعاء!

لجنة علمية تثمن موضوع الباحث أصيل الشابي وبنائه ومنهجه وتثني على جدّية الباحث واطّلاعه على المراجع وإفادته منها بصفة جيّدة.
العمل تركّز على محاولة استجلاء مظاهر من قصصيّة المعنى في أخبار السرّاج
انضواء المظاهر القصصيّة إلى خطاب له خصائصه بنية وأسلوبًا وأثرًا في المتلقّي
استجلاء خصائص الخطاب القصصي في مصنّف "مصارع العشّاق" الإخباري

بقلم: مصطفى عبدالله

شهدت كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس مناقشة أطروحة الدكتوراه المقدمة من الباحث أصيل الشابي في موضوع "الخطاب القصصي في مصارع العشّاق للسرّاج البغدادي(417ه ــ 500ه)" أمام لجنة علمية ضمت الدكاترة: نور الهدى باديس "رئيسًا"، الحبيب العوّادي "مشرفا"، المختار العبيدي "مقرّرًا"، سامية الدريدي "مقرّرًا" عمر مقداد الجمني "عضوًا".
وقد قامت اللجنة العلمية بتثمين موضوع البحث وبنائه ومنهجه وأثنت على جدّية الباحث واطّلاعه على المراجع وإفادته منها بصفة جيّدة، وخاصة المراجع الفرنسيّة. وأشارت إلى أنّ البحث يندرج في إطار تحديث المبحث النقدي، وقراءة التراث قراءة تعتمد على ثمار الدّراسات الجديدة.
وقد طرح أصيل الشابي في بحثه مسألة الخطاب القصصي في الأخبار التي يُوردها جعفر السرّاج، والدائرة على العشق وموت العشّاق. ومهّد لمسألة الخطاب ببسط جملة من المفاهيم التي تتعلق ببحثه فنيًّا ومنهجيّا وأجناسيّا لتمثّل جهازًا مفاهيميّا ممهّدا للقسم التطبيقي الخاص بوجهي الخطاب القصصي: المروي والرّاوي، أي ما اتّصل أوّلًا بالتزمين، وثانيًا بعمليّة التلفّظ سواء اتّصلت بالرّواة أو بالشخصيات في الأخبار.
 وقد تركّز العمل على محاولة استجلاء مظاهر من قصصيّة المعنى في أخبار السرّاج وانضواء تلك المظاهر القصصيّة إلى خطاب له خصائصه بنية وأسلوبًا وأثرًا في المتلقّي.
وأشار الشابي إلى أن مجموعة من الدّواعي دفعته على القيام بهذا البحث يمكن تمثيلها كالآتي:
 ــ دواعي اتّصلت بجرأة  السرّاج على موضوع العشق المحفوف بالحرج.
2ــ دواعي اتّصلت بطرافة الموضوع من حيث إنّ العشق يؤول إلى الموت.
3ــ دواعي اتّصلت بأثر جعفر السرّاج في لاحقيه الذين اختصروا كتابه "مصارع العشّاق" كإبراهيم بن عمر البقاعي صاحب "اختصار مصارع العشّاق" وغيره.  

رسالة جامعية
الباحث التونسي أصيل الشابي

4ـ دواعي اتّصلت بالحاجة إلى دراسة أخبار العشق في كتاب "مصارع العشّاق" على أساس ما ينتظمها من خطاب قصصيّ.
أهداف البحث
وقد تمثّل هدف البحث الأساسي في استجلاء خصائص الخطاب القصصي في مصنّف "مصارع العشّاق" الإخباري، وذلك بالتركيز أوّلًا على كيفيّة صياغته على لسان الرّواة في مستوى تركيب الأحداث، وصورة العشّاق.
والتركيز ثانيًا على خصائص تلفّظ الرواة وما يثيره من مسألة التبئير والعلاقة الخطابيّة مع المؤلّف المجرّد والمتلقّي، وكذلك على تلفّظ الشخصيّات العاشقة وتركيبه لغويّا وأجناسيّا ومقاميّا. 
وقد اختار الباحث لمقاربة مدوّنته المنهج الإنشائي بالاعتماد على إسهامات تودوروف وجيرار جينات معًا في إطار ما يُعرف بسرديات الخطاب، وحتّم هذا تعويله على الخطاب بوصفه نظامًا يشكّل المادة الحدثيّة تشكيلًا خاصّا على أساس قصدي ينمّ عن وعي مسبق، فالمخَاطَب، حينئذ، لا يتعرّف إلى المرويات إلاّ من خلال هذا الخطاب المصوغ. واعتمد، أيضًا، على التلفّظ سواء في تعلّقه بالرّاوي أو الشخصيّة العاشقة لأهميّة الذاتيّة في صياغة الخطاب، وحرصًا على تتبّع سياقات التخاطب بنية وأسلوبًا ومقامًا وآثارها في المتلقّين داخل نصوص الأخبار وخارجها ضمن إطار تداولي لا تنغلق فيه الأخبار على نفسها لأنّها لم تكن كذلك.
وقد جاءت الأطروحة في ثلاثة أبواب؛ الأوّل: نظري وعنوانه "التعريف بالمفاهيم الأساسيّة للبحث"، والآخران تطبيقيان؛ اختصّ أولهما بالخطاب المروي وثانيهما بالخطاب الرّاوي. 
نظر الباحث في الباب الأول في مفاهيم: البنية والإنشائية والخطاب والتخييل والمرجع والخبر والعشق.  
ووقف على ما تعرض له مفهوم البنية من نقد في إطار الدراسة الأدبية بسبب طابعه التجريدي وإغفاله بحسب رولان بارت للغة السرد باعتبارها لغة ثقافية، وافتقاد المقاربة البنيوية من جرائه بحسب جاك دريدا لهدف يبررها.
ثم أثار مسألة الخطاب عند الباحثين التونسيين كمحمّد الخبو الذي فتح المبحث الإنشائي على نظريّة التلفّظ مركّزا على قيمة التخاطب ومقامات التلفّظ عوضًا عن القول.
ووقف على ما أثاره القصّ عند العرب قديمًا من احتراز بسبب خوفهم من أثر التخييل في الأخبار والبعد عن المرجع المعبّر عن الصدقيّة، كما رأينا رهبتهم من العشق باعتباره عند بعضهم من "أمراض الخلعاء" كما ورد في كتاب "ذمّ الهوى" لابن الجوزي. 
وعرض إلى أهميّة الخبر في النقد الحديث من حيث هو وحدة سرديّة أو نواة سرديّة يمكن تركيبه في الخطاب القصصي بأشكال مختلفة، كما عرض إلى صدى النثر العشقي العربي القديم عند المستشرقين باعتباره جنسًا نثريّا له خصائصه المائزة وامتداده الزمني.
وركّز الشابي في الباب الثاني على أهميّة تزمين الخطاب المروي في الفصل الأوّل من خلال كسر بنية الحدث التصاعديّة بالاسترجاعات والاستباقات التي حوّلت الأخبار من البساطة إلى التركيب ورسّخت فيها مبدأ التشويق، وخلص من هذا المنطلق، إلى أهميّة الإيهام في كتاب "مصارع العشّاق".
وفي الفصل الثاني من خلال تصرّف الروّاة في الديمومة تسريعًا كما في حالة الإضمار والحذف وإبطاء كما في حالة المشاهد الحواريّة أو المشاهد الحدثيّة التفصيليّة، واستخلص، من هذا، أنّ المصرع يُعرض عرضًا مؤثّرًا بالتركيز على حاسة البصر.
وفي الفصل الثالث من خلال مظهري الإفراد والإجمال، ممّا جعل ممكنًا التحكّم في مشاهد العشّق وصور العشّاق بالمراوحة بين الاقتصاد والإسهاب طبقًا لوظيفيّة الشكل السرديّ المطلوب.
واهتمّ الباحث في الباب الثالث ضمن الخطاب الرّاوي بتلفّظ الرّاوي أوّلًا وتلفّظ الشخصيّة العاشقة ثانيًا، وحاول محاصرة درجة حضور الرّاوي وتقلّبه بين المعلوم والمجهول، وأثر ذلك في وجاهة الإسناد ملاحظًا أنّ الرّاوي المجهول المتّصل بالمتون في أخبار السرّاج يدفع إلى الشكّ في المرويات ويفتح الباب على التأويل والخيال ويُضعف من قيمة المرجع. وتوصّل الباحث إلى أنّ الرّواة الأصليين في الأخبار يستعينون بروّاة آخرين مماهين للأحداث للإيهام بصدقيّة الأحداث، غير أنّ الرّاوي الأصلي وأوّلهم المؤلّف السرّاج الحاضر بآثاره هو صاحب الصّياغة وضابط الرؤية ومعدّلها وهو الماسك بزمام الخطاب القصصي. 

مصارع العشاق
الأنثى العاشقة 

واهتمّ في الفصل الثاني بتلفيظ الشخصيات العاشقة، وذلك بناء على ثلاث خصائص كبيرة امتلكتها: 
أوّلا: أسلبة الملفوظ طبقًا للسياقات سواء كان ذلك بالقرآن الكريم أو بغيره، فالأسلبة بالقرآن الكريم تفرز ملفوظ العاشق المتّقي.
 ثانيا: التهجين اللّغوي الذي يظهر من خلاله الصّراع بين العاشق وغيره مثل المعشوق والمجتمع، فصوت العاشق مركّب من طبقات صوتيّة تمثّل الأطراف المتصارعة المشار إليها.
 ثالثًا: التدوير الأجناسي، إذا أنّ ملفوظ الشخصيّة العاشقة ينشأ ضمن مقامات قوليّة متنوّعة مثل مقام الترسّل ومقام الخطابة ومقام الخطبة، والمقام إطار لإنتاج الخطاب القصصي وتنويعه أجناسيّا.
توصّل الباحث إلى النتائج التالية:
1 . مكر خطاب الرّواة من خلال تزمين المرويات بتحريف الوقائع والأقوال أو اختلاقها طبقا لحاجات المتكلّم، وقد أنشأ هذا كلّه مرجعيّة فنّية داخليّة تتحكّم في الأخبار وتنأى بها عن المرجع الخارجي للتأثير في المتلقّي وتشكيل وعيه بالاعتماد على مغريات المعنى القصصي.
2 . أهميّة تلفّظ الرّاوي في" مصارع العشّاق" من جهة التفنّن في الصياغة وابتداع خطاب قصصي يتميّز بقدرة حجاجيّة عالية من خلال العجيب والطريف والخارق.
3 . أهميّة المؤلّف المجرّد في" مصارع العشّاق" من خلال آثاره في صلب المروي وتواطئه مع الرواة المختلفين لتدعيم خطابه الشعري المحذّر من العشق بتصوير أخبار العشّاق وأخبار مصرعهم وفق خطّة قصصيّة بعيدة عن الحقيقة التاريخيّة لما اشتملت عليه من تحريف زمني ومشاهد حواريّة متخيَّلة وصولا إلى تصوير حدث الموت تصويرا مفصَّلا طريفا.
4 . أهميّة تلفّظ الشخصيّة العاشقة البنائيّة والحجاجيّة من خلال الأسلبة والتهجين اللّغوي والأجناسي فقد ضمن هذا التلفّظ تحويل الأخبار من البساطة إلى التركيب ومن التقريرية السرديّة إلى التشويق القصصي وتنوّع الخطابات ضمن الخطاب القصصي العشقي الجامع.
5 . إغراء الخطاب القصصي في" مصارع العشّاق" من خلال صورة العاشق المتّقي بتحويل مفهوم العشق من الدلالة الدنيويّة الفانية المحدودة إلى الدلالة الباقية السرمديّة، وذلك بكسر شروطه الماديّة وبنائه بناء روحيّا.
6 . حضور شخصيّة الأنثى العاشقة بوصفها شخصيّة قصصيّة لافتة عند جعفر السرّاج في مسار العشق الدنيوي كما في مسار العشق الصّوفي.
7 . يحاول السرّاج الإقناع في "مصارع العشّاق" بتراتبيّة عشقيّة، يحتلّ ضمنها العشق الصوفي رأس الهرم ويشغل عشق الفسّاق قاعدته ويتوسّطهما العشق الدنيوي العفيف وذلك وفق منطق مُقارني ذي خلفيّة إيديولوجيّة في ظلّ تفشّي اللهو والتطرّف فيه كعشق الغلمان. 
8 . أهميّة المسكوت عليه في كتاب "مصارع العشّاق" فيما يتّصل بالعشق الدنيوي، فجعفر السرّاج يحاول من خلال تأليفه بين الأخبار العشقيّة التحذير من العشق مستخدما موضوع الموت، بينما تحيلنا الشخصيّة القصصيّة في كتابه على أنّ العشق الدنيوي عاطفة إنسانيّة جيّاشة وسمة أساسيّة من سمات الوجود الإنساني.