عن قروض البنك الدولي وصندوق النقد

الإنتاج الضخم والمصانع العملاقة لم تظهر فجأة في الدول المتقدمة، بل لقد سبقها التحرر المجتمعي والثقافي وإرساء الديمقراطية والعمل المؤسسي.
لماذا نجحت دول شمال الكرة الأرضية وأخفق الآخرون؟
المجتمعات الأوروبية اعتمدت في حضاراتها على الطبيعة المتنوعة السخية

تقوم نظرية الليبرالية الاقتصادية على تقليص دور الحكومة الى الحفاظ على أمن الدولة وتطبيق القانون، وما عدا ذلك، فهو متروك للقطاع الخاص، على أساس أن آليات السوق توازن بعضها البعض، وتنشط الحياة الاقتصادية ويشتد التنافس بين التجار حتى يصل الى اختراعات جديدة وأعلى مستوى من الجودة والسعر التنافسي، وقد نجح هذا الأمر بالفعل في الدول الصناعية. ومع ذلك فهناك شريحة من المجتمع لا تستطيع الإنتاج والتنافس فتتكفل الحكومات بتلبية حاجاتهم من راتب تقاعدي وعلاج وتعليم مجانيين. ومن أين تأتي الحكومة بالأموال التي تكفي؟ بالطبع فهي تجني الأموال من الضرائب المفروضة على الأعمال الاستثمارية، وكلما كانت الأعمال مزدهرة زادت أرباحها وارتفعت ضرائبها وامتلأت خزائنها. 
من الناحية النظرية، فهذا أمر رائع، ويقضي على الفساد، لأن الحكومة لا تعطي وظائف والمناصب عددها محدود وهو تحت المجهر ويسهل كشف حالات الفساد والتعامل معها بحزم. ولكن لماذا نجحت دول شمال الكرة الأرضية وأخفق الآخرون؟ 
إذا كانت الطبيعة جادت على هذه الدول بالمياه الغزيرة والتربة الخصبة فإن هناك ما يكفي لسد حاجات الانسان الأساسية دون وظيفة ولا مساعدات حكومية، وعبر التاريخ، ظلت شعوب أوروبا قبل الثورة الصناعية تعتمد على خيرات الطبيعة، فلا يتطلب الأمر سوى بناء بيت خشبي من الأشجار المحيطة، وإنشاء مزرعة صغيرة للمواشي والطيور وهناك ثروة سمكية هائلة تمكنهم من الصيد في قوارب خشبية. وليس هناك ما يمنع الانسان من التفكير والإنتاج طالما أنه يحصل على كل حاجاته من بيئته القريبة منه دون عناء، فهل يمكن مقارنة هذا الانسان مع الانسان العربي مثلا؟ إذا كانت النرويج وحدها لديها ما يقرب من نصف مليون بحيرة مياه عذبة، فهل تقارن بأية دولة من العالم الثالث؟ 
إن توفر الثروات الطبيعية من الماء والغذاء يمهد الطريق لانطلاق طاقات الانسان وإبداعه، فالجمال الساحر والجبال الشاهقة والثلج الذي يكسوها والغابات الممتدة تدعو الانسان الى الخروج والاستمتاع بالمناظر الخلابة، والإقبال على الحياة بحيث يشعر الانسان فعلا انه مميز عن باقي المخلوقات، ويتولد لديه الصفاء الذهني، وقديما كانت تلك الشعوب تتفاخر بالبنية الجسدية والقدرة والتحمل وقال الرومان عن الإغريق عندما هزموهم "دعونا نتولى الجيش ودعوهم ينشغلون بالفن". 
لقد أثرت الطبيعة على الأوروبيين بشكل ملحوظ لا يقبل المناقشة، فحجم أجسادهم أكبر من بقية الشعوب وأعمارهم أطول وحتى الحسن والجمال لديهم أكثر. فلا عجب أن قدراتهم الفكرية تفوقت على سائر الشعوب، ولم يقتصر التفوق على الإنتاج والابتكار، بل تعداه الى اعتزاز الانسان بنفسه وعدم اعتبار المسؤول أفضل منه، بل أن المسؤول يخاف من الرعية التي تعتبر نفسها هي التي منحت المنصب للمسؤول واذا لم يقم بواجبه أو بدر عنه سلوك يدل على الفساد أو استغلال المنصب، فإنها تعزله وتعاقبه، وتحولت الى دول مدنية وأقصت المؤسسات الدينية نهائيا عن إدارة الدول، بعد أن أدركت ما يفعله رجال الدين والقساوسة وتستر الطبقة الحاكمة بهم.
لكن الإنتاج الضخم والمصانع العملاقة لم تظهر فجأة في الدول المتقدمة، بل لقد سبقها التحرر المجتمعي والثقافي وإرساء الديمقراطية وأسس العمل المؤسسي، وقامت الحكومات بدعم القطاع الصناعي والزراعي بقوة في بداية القرن العشرين حتى أصبح مجديا وفاعلا ويرفد خزينة الدولة بأموال طائلة ومن ثم قامت الحكومات برفع الدعم تدريجيا عن المجتمع مع تخصيص جزء من ايراداتها لدعم العاطلين وكبار السن، لأنها أصبحت في وضع يمكنها من رفع الدعم بفضل الايرادات الهائلة التي تجنيها من الضرائب على القطاع الخاص. 
لو كانت هذه الدول تنفق على شعوبها بسخاء لتمكنت كل أسرة من توظيف خدم وسائقين، ولكن تلك الدول لا تريد الإنفاق الى درجة الترف بحيث يصبح الفرد كسولا ومعتمدا على الحكومة، بل أنها تحتفظ بالفائض لدفع عجلة التنمية والديبلوماسية الخارجية وغيرها من المشاريع الطموحة كاستكشاف الفضاء والأبحاث العلمية بالإضافة الى الإنفاق على الجيش والحكومة. 
بناء على ما سبق، فإن تطبيق الليبرالية الاقتصادية المتمثلة بشروط البنك الدولي وصندوق النقد العالمي على دول العالم الثالث والدول الأقل نموا مأساة كبرى، فإذا رفعت الحكومات الدعم عن الشعوب فإنها تتركهم لطبيعة جرداء وليس لديها ما تجود به عليهم من ماء وطعام. وهذا الانسان الذي يعيش في طبيعة جرداء وفصول يغلب عليها ارتفاع درجة الحرارة، ليس لديه ذاك التوقد الموجود لدى الانسان في الدول الغنية، لذا فهو غير قادر على فرض إرادته، فيتوسل حكومته ويتسول الإحسان من الناس، فكيف لا تزال حكومات العالم الثالث تقترض من البنك والصندوق الدوليين وتقبل بشروطهما؟ يبدو أنها لا تفكر في شعوبها أبدا وتكتفي بالحصول على مكاسب شخصية وأرصدة في البنوك الخارجية. 
ومع ذلك، فقد تمكنت بعض الدول من تحقيق النجاح من خلال تقليد الدول المتقدمة، والتقليد ليس بنقيصة تتهم بها الدول، فالصين تمكنت من الوصول الى مستوى الولايات المتحدة في الصناعات وما هي بالمخترعة ولا العبقرية، ولكنها تمكنت من فرض القانون واجتثاث الفساد وتحقيق التنمية، كما تعتبر بتسوانا أعظم نجاح في أفريقيا حيث انتقلت من مصاف الدول الفقيرة الى الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى ومن المتوقع أن تصبح في مصاف الدول الغنية في عام 2036، هذا إذا لم تؤثر جائحة كورونا على خطتها. في المقابل، لا تزال زيمبابوي تعاني من المجاعات المتكررة، وربما يتذكر البعض المقولة الشهيرة لرئيسها الأسبق روبرت موغابي "زيمباوي لي". وهكذا تبقى الدول التي لا تستطيع التخلص من الفساد تعاني من المجاعات وغير قادرة حتى على التقليد.