عن نمط الاستقرار الفرنسي

الحراك الذي يحمل مسمى "السترات الصفراء" هو مظهر من صراعات تتجاوز تلك القائمة بين الطبقات الوسطى والمترفة إلى تاريخ البحث الأوروبي عن استقرار كاذب.

حين فاز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة كتبت مقالا لجريدة الحياة تحت تأثير "الصفاقة" التي مارسها الإعلام العالمي، بمعظم أطيافه، مستخدما فيها ضمائر بارزة تتوزع بين أقطار الأرض كافة، وعلى رأسها لوبي المجمع الصناعي في الولايات المتحدة. الصفاقة هنا ليست وصفا أخلاقيا يقصد الدفاع عن الشعبوية بأي معنى، فالشعبوية واحدة من تمثيلات الهوية المغلقة ذات الطبيعة الاستئصالية، لكنها الصفاقة التي تتعلق بذلك الخطاب التلفيقي الذي حاول إعادة تسويغ حكم الأوليغارية، بعد أن تم اختصاره في حزبين كبيرين ظلا على مدار أكثر من نصف قرن يعملان على حراسة تجار السلاح ورعاية الدمار الإنساني وتعزيز حروب الهويات وتعزيز التمدد الجيوسياسي، عبر صراعات باهظة الكلفة لم يدفع ثمنها سوى ضحايا تلك الأوليغارية في كل مكان.

الأمر نفسه يعاد إنتاجه في الاضطرابات الفرنسية الأخيرة، حيث لا يكاد المرء يفهم مساحات التهكم التي أطلقتها أطياف واسعة، من فصائل اليمين واليسار، للتحذير من خطر التبشير بأن حركة "السترات الصفراء" في فرنسا تبدو تعبيرا عن عودة اليسار كقوة حركية مؤثرة في مستقبل أوروبا.

المدهش أن تلك التهكمات صدرت من أصوات محسوبة على الاشتراكية التقليدية والديمقراطية على السواء، فضلا عن فصائل اليمين بصفة عامة، واليمين الديغولي في فرنسا على نحو خاص، وهو التيار الذي يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه أحد أبنائه المخلصين. ولا يبدو تكاثر هذا التحذير وليد مخاوف حقيقية من قوة اليسار وقدرته على الحشد، بل تبدو المخاوف الحقيقية كامنة خلف عودة السياسة الأوروبية إلى البحث عن استقرار النموذج السياسي، الذي اعتمد طيلة القرن الماضي على صراعات التمدد الخارجي من ناحية، وعلى الاحتواء للمزيد من الفئات الشعبية داخليا، عبر اختلاق مخاوف هوياتية كاذبة تتعلق بالإرهاب والهجرة والمخدرات وغيرها. ولا أظن أن سقوط الشعبوية في فرنسا ونجاحها في الولايات المتحدة يعني أن المسافة كبيرة بين النموذجين، فكلاهما باحث عن نمط من أنماط الاستقرار التي تحدث عنها نعوم تشومسكي، ووصفها بأنها قدر ملايين البشر أمام الاقتصاد المُعَولَم، حيث قدمت تلك الأنظمة العديد من الآليات الفعالة للسيطرة على الشعوب، عبر التمكين الدائم لجماعات المصالح.

وقد استخدمت كل الأنظمة تقريبا قضية الحرب الباردة كتكئة، لترويج مخاوف هائلة تمت صياغتها تحت شعارات مهيبة تستهدف حماية الأمن القومي. وقد تعاظمت الأزمة عبر شيطنة الآخرين بطرق متفاوتة في مقدار أكاذيبها. لكن انتصار الرأسمالية وتأسيس عصر ما بعد الكولونيالية جعل من الولايات المتحدة حارسا وحيدا على كومة من القيم المُلْغِزَة التي تمنى معها سياسي ودبلوماسي مخضرم مثل جورج كينان أن تكون سياسات الرأسمالية أقل وضاعة، قائلا: "يجب أن نكف عن شغل أنفسنا بقضية أنه من الظلم أن نحرم الإنسانية المعذبة من اهتمامنا وكرمنا السخي". وقد حاول رجال المال في كل عصر احتواء الجماهير المسيسة، بأن يكفوا أيدي العامة من الطبقات الفلاحية وغير المهنية عنهم، وكانوا جميعا يرددون بسخرية مقولة المليادير رالف إيمرسون: "يجب أن نبعد أيديهم عن رقابنا". فما الذي فعلته الدولة الفرنسية مع "السترات الصفراء"؟ وما الذي فعلته الشرطة الأميركية تجاه اضطرابات محدودة قتل فيها المئات من السود إبان حكم رئيس من أصول إفريقية؟

لوحة "الحرية تقود الشعب" ليوجين ديلاكروا
هل تغير شيء: لوحة "الحرية تقود الشعب" ليوجين ديلاكروا

إن نمط الاستقرار الذي تبحث عنه الرأسمالية الآن يفارق العقل الأوروبي الذي صنع عصر النهضة في جملته، حيث كانت الثورة الفرنسية واحدة من أنصع الثورات التي لم تغير العقل الفرنسي فحسب، بل غيرت العقل الإنساني. غير أن خطورة ما يحدث أنه يبدو استعادة لنموذج "النبيل ذو الوجه الأخضر" في رواية سرفانتس "دون كيشوت". هذا النموذج المقدس الذي يسمح في النهاية للعامة بأن يقبلوا قدميه، لأنه أول قسيس يرونه ممتطيا صهوة جواده، بينما يقذفهم مجانا بصكوك الجنة، وهو نموذج عززت الكنيسة من حضوره، حتى تقوض دورها اعتبارا من الثلث الأخير من القرن السابع عشر. وربما كان نمط الاستقرار الفرنسي الذي دفع بأكثر من ثلث مليون شرطي وأكثر من عشرة آلاف مصفحة، لتواجه ساخطين من العزل، يفسر لنا لماذا قابلت مؤسسات السياسة الأوروبية فكرة إسقاط صفة الثبات عن معنى الأشياء في "ما بعد الحداثة" بسخرية طالت رموزا كبرى مثل اشبنجلر وفرانسوا ليوتار الذي رأى أن مثل هذا الوصف جارح للنرجسية الأوروبية، لأنه ببساطة يعتبر التاريخ واحدا من سرديات اللايقين. وقد سخر كثيرون من اشبنجلر ومن بعده جان بودريار عندما وصفوا الحضارة الغربية بأنها وقعت في مرآة ذاتها، وقد تجاسر كارل بوبر ووصف اشبنجلر بأنه لا يعتبر فقط النبي الزائف للتدهور الغربي المزعوم، وإنما أيضا يعتبر عرضا لتدهور حقيقي.

من هنا لا يمكننا التعامل مع أزمة السترات الصفراء سوى باعتبارها مركزا لصراع تاريخي، ليس فقط بين الطبقات الوسطى والمترفة، لكنها صراع بين ماضي أوروبا المظلم الباحث عن أنماط استقرار كاذبة وبين حاضرها المتقد بأفكار كبرى حطمت مركزية المعرفة الكلية، بعد الاكتشافات العظمى للكوبرنيقيية والفيثاغورية والداروينية. وقد كان هابرماس من أوائل الذين حذروا من أن تحطيم قوة أوروبا يكمن في تحولها إلى نمط تفكير أحادي، بعد تفاقم التماهي شبه التام بين قوى المعارضة والنظام في الديمقراطيات الغربية، حتى غدا المجتمع نفسه أحاديا، رغم مظاهر الصراع الفوقي بين صقور يتنافسون فقط على مصالحهم.