"عودة الإنسان" .. قصة الخليقة برؤية مستقبلية

أين يكمن التناص في النص الذي يقدمه لنا الكاتب العراقي عبدالأمير المجر مع غيره من النصوص الأخرى؟
لم تكن الجنة لدى الشابة والشاب اللذين يتجولان في مركبة فضائية سوى ذلك اللاشعور الذي كانا يعيشان فيه
بدأت قصة حب من نوع جديد بين الشاب والشابة

بقلم: نزار عبدالغفار السامرائي

يذهب النقاد إلى أن النصوص الأدبية تتقاطع مع بعضها البعض، وتتشكل من تفاعل بعضها ببعض، حيث يتأثر النص بما سبق من نصوص أخرى، وهو ما اطلقت عليه جوليا كريستيفا "التناص" الذي يشير إلى علاقات النص بنصوص أخرى، واستخدمت الدراست السيميائية هذا المصطلح كمفهوم إجرائي يساهم في تفكيك النصوص (الخطابات) والتعرف على مرجعيتها وتعالقها بنصوص أخرى، وبالتالي التعرف على تقاطع النصوص وتداخلها ثم الحوار والتفاعل فيما بينها.
ومن هذا الاتجاه يمكننا قراءة قصة "عودة الإنسان" التي تضمنتها المجموعة "كتاب الحياة" للقاص عبدالأمير المجر الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2018. 
واذا ما انطلقنا من العنوان كعتبة أولى للنص نجد أنه يتكون من كلمتين؛ الأولى "عودة" والعودة تتطلب غياب سابق أو رحيل، وهو هنا مرتبط بالكلمة الثانية "الإنسان" التي جاءت معرفة لتدل على الجنس البشري عموما، وليس على فرد معين أو توصيف معنوي. 
ويعزز هذا التمهيد الذي قدمه الكاتب للنص ويتحدث عن الإنسان عبر آية قرآنية من سورة آل عمران، ومقطع من سفر التكوين في الكتاب المقدس، قبل أن تبدأ أحداث القصة في الفضاء البعيد عن الأرض. لنتعرف على كوكب تسكنه كائنات متحضرة متقدمة علميا تشبه البشر لكنها أصغر منه، قبل أن ينحرف مسار السرد بالعودة إلى الأرض في زمن سابق. لنتعرف على إطلاق مسبار متقدم يحمل شابين (فتى وفتاة) لأكتشاف الفضاء ومعرفة إن كانت هناك حيوات أخرى في المجرات البعيدة.

الكاتب أدمج رؤيته لعالمنا المعاصر وما ينتظره من مأساة، ليعيد بناء قصة هبوط آدم وحواء من الجنة لإعمار الأرض 

ويمكن هنا أن نتساءل أين يكمن التناص في النص الذي يقدمه لنا عبدالأمير المجر مع غيره من النصوص الأخرى، ولاسيما أن مسار السرد يتنقل بنا عبر الزمن حيث يكون زمن الحكي هو المتعلق بسكان الكوكب (ميسو) الواقع في مجرة بعيدة عن الأرض، أما الزمن المتعلق بالأرض فهو سرد سابق للأحداث بمئات السنين، قبل أن يؤدي حادث تفجير بحياة الإنسان على كوكب الأرض وتفنى البشرية بسبب خطأ علمي يتسبب بكارثة شاملة.
هنا على وجه التحديد يتناص القاص مع ما يتوارد من نصوص عن أصل الإنسان على كوكب الأرض، ليعيد كتابتها بعودة الفتى والفتاة بمساعدة علماء كوكب (ميسو) إلى الأرض التي لم يعد فيها غير الحيوانات. حيث يمكننا تلمس قصة الخليقة التي تتكرر مرة اخرى، وكأن ادم وحواء قد هبطا توا من السماء. 
قال الشاب للشابة.. أين نحن؟.. وأين كنا؟
ردت عليه بعفوية..كنا في الجنة!! (ص112)
لم تكن الجنة لدى الشابة والشاب اللذين يتجولان في مركبة فضائية سوى ذلك اللاشعور الذي كانا يعيشان فيه، وحدهما دون أي مخلوقات أخرى لا يعرفان عن المشاعر شيئا، فيمضيان الأعوام كلها بحياة أبدية، وهم في سعادة وتناغم دون أية ذاكرة، بعدما يحقنان بمادة (تمنع عنهما أي شعور بالضجر، حيث سيكونان في غاية السعادة وينعدم عندهما الإحساس بالخوف والخطر أيضا، وسيعيشان خارج الزمن ..) ص84 كما كان آدم وحواء في الجنة، حيث لا ينتهي هذا إلا عند نزولهما إلى الأرض مرة أخرى (لما لفح الشابين هواء الأرض جفلا بعض الشيء ونظر أحدهما إلى الآخر... لقد صارا يتحرران من سكرتهما الطويلة) ص111. 

كاتب عراقي
عبدالأمير المجر

لقد أعاد عبدالأمير المجر إنتاج قصة الخليقة، ولكن ليس بالشكل الذي يفسر ظهور الإنسان على الأرض، وإنما بعودته إليها بعد مئات السنين من الكارثة التي جعلته يفني نفسه بنفسه. "لقد بدأت قصة حب من نوع جديد بين الشاب والشابة.. إذ أيقنا أنهما باتا غريبين على الأرض، التي لم يعد لها أي أمل بعودة الإنسان إلا بارتعاشة جديدة من جسديهما الشابين حين يلتحمان من جديد، مأخوذين برغبة دفينة تيقظت في جسديهما..) ص114.
الشيء الآخر الذي يعمل عليه القاص في نصه هو استثمار الحكاية التي تروي قصة هبوط كائنات فضائية حنوب العراق واتصالها بالبشر هناك، وهو ما يعرف بكائنات كوكب نيبرو. إذ أن عودة الإنسان (الشابين) إلى الأرض تتم بمساعدة سكان كوكب (ميسو) الذين يعيدونهما بمركبة فضائية متطورة إلى الأرض ويهبطان بهما في أرض العراق بالتحديد كما تتحدث حكاية الكائنات الفضائية (الملائكة) التي هبطت في أرض أور.
"بان جسم السفينة العملاقة فرفعت ملايين الحيوانات أعناقها إلى الأعلى. لقد كانت تسرح وتمرح على أرض بلاد ما بين النهرين، المكان الذي حددته السفينة مركزا للأرض، وقريبا من بقايا قلعة، ظهر اسمها بشكل تلقائي على الشاشة، بعد أن تم تلقيم السفينة بخرائط الأرض.. (قلعة أور).
إذا الكاتب يستثمر عبر فنتازيا الرحيل والعودة حكايتين يدمجهما معا معيدا بناء تصور للخليقة، ولكن ليس بالرجوع إلى الماضي السحيق، وإنما بالذهاب إلى المستقبل البعيد، حيث يظهر لنا النص أن عودة الإنسان هي مقابل لرحيله أو بالأحرى فنائه بسبب ذلك الصراع على السلطة والقوة ومحاولة الهيمنة على الكوكب التي تؤدي إلى الكارثة نتيجة البحث الدؤوب عن سلاح مدمر يؤمن النفوذ المطلق لمن يمتلكه، ولكن كل ما يفعله هو الفناء.
الفناء المطلق الذي يلغي وجود الإنسان بشكل كامل لولا الصدفة التي تجعل أولئك الفضائيين يكتشفون مسبارا تائها في الكون السحيق يحمل آخر البشر، فيقررون أعادتهما إلى الأرض ليبدء تاريخ جديد للبشرية.
لقد أدمج الكاتب رؤيته لعالمنا المعاصر وما ينتظره من مأساة، ليعيد بناء قصة هبوط آدم وحواء من الجنة لإعمار الأرض، وإذا به يفسد ويسفك الدماء وربما كان النص الذي استعاره الكاتب من سفر التكوين هو الأقرب لتفسير الأحداث "وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعلّه يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد".