عودة الى لوكربي

اذا كان من درس يمكن استخلاصه من كتاب "لوكربي: الحقيقة"، فهذا الدرس هو ان مصالح اميركا تتجاوز في أحيان كثيرة القيم التي تفرض احقاق العدل كما حصل مع ايران بعد لوكربي.

تثير العودة الى فتح ملف لوكربي، اقلّه إعلاميا، أسئلة كثيرة. يرتبط السؤال الاوّل بالتوقيت. لماذا الآن ولماذا تبرئة نظام معمّر القذافي من تهمة تفجير الطائرة الاميركية في الجو يوم الواحد والعشرين من كانون الاوّل – ديسمبر من العام 1988.

انفجرت الطائرة من طراز "بوينغ 747" (جمبو) فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية بعد دقائق من إقلاعها من مطار هيثرو في لندن في طريقها الى نيويورك في الرحلة الرقم 103. قتل كلّ من كان في الطائرة التابعة لشركة "بانام" من ركاب وافراد طاقم (259 شخصا). كذلك قتل احد عشر شخصا من سكان البلدة التي سقطت أجزاء من الطائرة فوق احد منازلها.

في ذكرى مرور ثلاثين عاما على فاجعة الرحلة الرقم 103، وهي أسوأ حادث طيران في تاريخ بريطانيا، اعيد فتح الملف اعلاميا. لم تعد ليبيا – معمّر القذّافي المتهمة، بل صارت ايران وذلك استنادا الى كتاب صدر حديثا واحدث ضجة. استند كاتبه دوغلاس بويد الى تحقيقات اجراها وصل في نهايتها الى نتيجة ان ايران كانت وراء كارثة لوكربي وذلك بعدما امر آية الله الخميني بـ"القصاص" من الولايات المتحدة التي اسقطت احدى سفنها الحربية المبحرة في الخليج طائرة ركاب إيرانية بواسطة صاروخ. كانت الطائرة الايرانية من طراز "آرباص" في رحلة عادية فوق الخليج عندما اطلقت السفينة الاميركية "فينسينز" صاروخا في اتجاهها. كان ردّ فعل الخميني على المأساة التي وقعت في شهر تموز- يوليو 1988 ان امر بالانتقام من الولايات المتحدة. كان مطلوبا اسقاط طائرة ركاب أميركية ردّا على اسقاط طائرة الركّاب الايرانية فوق مياه الخليج.

لم يكن اسقاط الصاروخ الاميركي الطائرة الايرانية، التي قتل كلّ من كان فيها، حدثا عابرا. لعبت الفاجعة الانسانية التي تسبب بها الصاروخ والتي أودت بحياة مدنيين إيرانيين دورا في حمل الزعيم الايراني على وقف الحرب مع العراق بعد ثماني سنوات من بدايتها. ففي آب – أغسطس 1988، اعلن الخميني عن تجرّع "كأس السمّ" وامر بوقف اطلاق النار بعدما كان يشدّد على ان لا مجال لوقف القتال في ايّ ظرف من دون الاقتصاص من النظام العراقي الذي كان صدّام حسين على رأسه.

يتحدّث الكتاب الذي وضعه بويد تحت عنوان "لوكربي: الحقيقة" عن أسباب غامضة، تبيّن مع الوقت انّها اكثر من واضحة، حملت الاميركيين والبريطانيين على التركيز على الدور الليبي في قضيّة لوكربي وصولا الى ادانة عبدالباسط المقراحي، وهو موظف في شركة الطيران الليبية بتهمة زرع العبوة التي فجرت الطائرة في الجوّ. استند الاميركيون الى عميل ليبي ثانوي جدا لدى الـ"سي.آي. إي" لجمع ادلة تدين المقراحي عبر حقيبة البسة شحنت من مالطا الى فرانكفورت. في الواقع، انطلقت رحلة الطائرة الاميركية من فرانكفورت في اتجاه نيويورك ولم تكن لندن سوى محطة توقفت فيها طائرة "بانام" قبل الانطلاق مجددا في اتجاه الولايات المتحدة. يؤكّد الكتاب ان المتفجرة زرعت في الطائرة بعد توقفها في لندن وانّ الشخص الذي تولّى ذلك يدعى "أبو الياس" وقد استطاع اختراق النظام الأمني في هيثرو والوصول الى حقائب الركّاب قبل نقلها الى الطائرة وتحميلها فيها.

تراجعت الولايات المتحدة بعد العام 1990 عن توجيه أي اتهامات الى النظام السوري او الى ايران. جاء التراجع بعدما كانت وكالة الاستخبارات الاميركية التابعة لوزارة الدفاع أعلنت في 1989 عن امتلاك كلّ الأدلة التي تشير الى ان ايران وراء تفجير طائرة "بانام"، عبر وزير الداخلية السابق علي اكبر محتشميبور وانّ المنفذ كان تنظيما فلسطينيا يدعى "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" قبض سبعة ملاين دولار من ايران. ليس هذا التنظيم المتخصص في التفجيرات، والذي على رأسه احمد جبريل، سوى أداة تابعة للنظام السوري.

عزز الاتهام الموجه الى "القيادة العامة" اعتقال مجموعة من نحو عشرين شخصا تابعة لها في فرانكفورت قبل بضعة أسابيع من جريمة لوكربي. ما لم يرد في الكتاب هو اسم قائد تلك المجموعة التي كانت تعد لزرع راديو ترانزيستور فيه متفجرات في طائرة ركاب أميركية. كان قائد المجموعة يدعى حافظ دلقموني، وهو خبير متفجرات لدى احمد جبريل. نشرت صحف عدّة اسمه في حينه. اكتفى دوغلاس بويد بالإشارة الى ان خبير المتفجرات كان وقتذاك مروان خريسات. تجاهل دلقموني الذي اختفى اسمه من الاخبار.

جعلت السياسة الولايات المتحدة وبريطانيا تتجاهلان ايران والنظام السوري واحمد جبريل فجأة وتصوبان على معمّر القذافي. بعد الاحتلال العراقي للكويت في صيف العام 1990، صارت هناك حاجة الى استبعاد احمد جبريل و"القيادة العامة" لاسباب سورية. فاحمد جبريل لا يمكن ان يقدم على ايّ عمل من دون النظام السوري.

كلّ ما في الامر انّ رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد قرر المشاركة عسكريا في "التحالف الدولي" من اجل اخراج صدّام حسين من الكويت. في الوقت ذاته، رفضت ايران تقديم أي مساعدة من ايّ نوع للعراق في اثناء احتلال الكويت، لم تعد هناك مصلحة أميركية في اتهام ايران او أداة سورية في قضيّة لوكربي. على العكس من ذلك، صار مطلوبا مكافأة ايران التي راح صدّام حسين يتقرّب منها معتقدا انّها ستنضم اليه في مواجهة القوات الاميركية في حال حاولت إخراجه من الكويت!

اكثر من ذلك، قبض النظام السوري سلفا ثمن مشاركته في حرب تحرير الكويت الثمن في لبنان. سمح له بوضع اليد على البلد ودخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللتين كانتا في مثل هذه الايّام من العام 1990 تحت سيطرة الجنرال ميشال عون رئيس الحكومة المؤقتة التي تشكلت اثر انتهاء ولاية الرئيس امين الجميّل. ما سهلّ الامور على الاميركيين ان ميشال عون الرئيس الحالي) كان متحالفا وقتذاك مع صدّام حسين العدو اللدود لحافظ الأسد.

اذا كان من درس يمكن استخلاصه من كتاب "لوكربي: الحقيقة"، فهذا الدرس هو ان مصالح اميركا تتجاوز في أحيان كثيرة القيم التي تفرض احقاق العدل كما حصل مع ايران بعد لوكربي... او تجاهل استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي كما حصل صيف العام 2013.

لا شكّ ان على ايران ان تقلق بعد صدور كتاب دوغلاس بويد. لا شيء يحدث في الصدفة في هذا العالم. في السنة  2018لا بدّ من العودة الى لوكربي والى الوقائع التي كان مطلوبا اخفاءها في مرحلة معينة والى الباس معمّر القذافي التهمة. الأكيد ان القذّافي رحب في البداية بلعب دور من يقف وراء اسقاط طائرة ركاب أميركية. الرجل ارتبط بعلاقة في العمق مع النظام الايراني الجديد منذ ما قبل تولّي الخميني السلطة في 1979 كذلك مع النظام السوري واحمد جبريل. كانت هناك شراكة ليبية – سورية – إيرانية طوال مرحلة طويلة. كان هناك تبادل للادوار بين الأطراف الثلاثة. كان ركاب الرحلة 103 بين من دفع ثمن هذه الشراكة، كذلك ثمن الرغبة الاميركية في مراعاة النظام السوري وايران. وحدها الايام الآتية ستكشف هل تغيّر شيء في واشنطن ام لا؟