غادة عبدالحميد تضع أسس 'مقاربة سوسيو-أنثروبولوجية' للإعلام المستدام
في ظل التحديات التي تواجه العالم اليوم؛ مثل تغير المناخ، والتفاوت الاجتماعي، والفقر؛ فإن وسائل الإعلام تعد أداة قوية يمكن استخدامها لنشر المعلومات وتغيير السلوك، وفي إطار التنمية المستدامة، يمكن لوسائل الإعلام أن تمارس دورا مهما في توعية الجمهور بالقضايا البيئية والاجتماعية والاقتصادية التنمَوية، وتغيير السلوك، وتعزيز المشاركة المُجتمعية، ولتحقيق هذا الدور، يجب على وسائل الإعلام أن تلتزم بتقديم محتوى إعلامي دقيق وموضوعي، وأن تسعى إلى الوصول إلى جمهورٍ متنوعٍ.
انطلاقا من هذه الرؤية للباحثة د.غادة محمود عبد الحميد تأتي دراستها "الإعلام المستدام نحو مقاربة سوسيو-أنثروبولوجية"، مؤكدة أن الإعلام بشكل عام الذي - يتسم بالمهنية والشفافية - يصبح عاملا مؤثرا في الإسراع بمعدلات التنمية؛ حيث يؤدي الإعلام ووسائله دورا مهما في التعبير عن اهتمامات واحتياجات المجتمع، وتدعيم الوعي بين أفراده بالقضايا المُجتمعية المختلفة، مما أوجد ارتباطا بين دور الإعلام والتنمية، ومسئوليته تجاه تحقيقها؛ حيث يمتد دوره إلى توعيةِ أفراد المجتمع بأهمية المشاركة في صناعة وتحقيق التنمية.
وأضافت عبدالحميد في كتابها الصادر عن دار العربي أن معيار التزم وسائل الإعلام بمسئوليتها تجاه مجتمعها يتحدد بمدى مصداقية المعلومات، وتأثير الأخبار المقدمة، وفي ظل الظروف الراهنة؛ حيث تتعدد مصادر المعلومات في عالمٍ رقمي فرض التدفق الحر للمعلومات، ظهرت الحاجة الملحة إلى إعلام متوازن محايد، يقدم عبر وسائل الإعلام التقليدية المعلومات الحقيقية في تغطية مستمرة آنية وسريعة لمختلف القضايا المجتمعية، مع الالتزام بالنقل الصادق والصحيح للأخبار والمعلومات. ومن هنا تتضح بقوة أهمية المَسْئولِية الاجتماعية لوسائل الإعلام التي تتركز بدورها على ثلاثة أبعاد أساسية؛ حيث يتصل البعد الأول بالوظائف التي يجب أن يؤديها الإعلام المعاصر، ويتصل البعد الثاني بمعايير الأداء، بينما يتصل البعد الثالث بالقيم بالمهنية التي يجب مراعاتها أثناء العمل الإعلامي، ووفقا لتلك الأبعاد انطلقت نظرية المَسْئولِية الاجتماعية من أساس فكري مهم، هو أن الحرية حق وواجب ونظام ومسئولية في الوقت ذاته. وفي إطار ذلك تمارس وَسَائل الإعْلَام دورا جوهريا أثناء عمليات التنمية؛ ولذلك فهي تقوم بمسئولية اجتماعية تجاه جمهورها، هذا يعني ضرورة حصولها على مجموعة من الحقوق، والتزامها بمجموعة من الواجبات. وتتمثل الحقوق في توفر بيئة قانونية مناسبة للعمل الإعلامي الحرِّ تحترم الحق في حرية الرأي والتعبير، في حين تتمثَّل الواجبات في قيام وَسَائل الإعْلَام بدورها كواحدة من أهم المصادر المعلوماتية وتوجيه الرأي وصناعة الوعي.
ورأت أن الاتجاه إلى الاستدامة أصبح الآن أمرا مهما؛ وذلك بسبب استغلال الأفراد للموارد غير المتجددة بشكل مفرط، وسيؤدي تزايد عدد سكان العالم إلى نفادها، وبالتالي لم تعد التنمية المستدامة خيارا؛ بل هي ضرورة لهذا يتطلب تحققها المشاركة الفعلية لكلِّ أطراف المجتمع خاصة وسائل الإعلام. ومن هنا تبرز أهمية الجهود البحثية من أجل الوقوف على مدى حقيقة الدور الذي تمارسه وسائل الإعلام التنمَوية، ومسئولياتها وتأثيراتها في الجمهور وتقويم هذا الدور، خاصةً في ظل تزايد اعتماد بعض فئات الجمهور على وسائل الإعلام الرقمي، بوصفها المصدر الرئيسي لاستيفاء المعلومات عن الأحداث والقضايا، وإتاحة المجال لكافة الآراء والتوجهات دون استثناء بأساليب لا تتصف بالمهنية أو الموضوعية، ووفقا لذلك يجب التصدي لها باستخدام مجموعة من الضوابط المنظمة للعمل الإعلامي، من أجل أن تعود وسائل الإعلام التقليدية، كقوة مؤثرة وقادرة على التوجيه الثقافي، وتكوين الوعي المجتمعي لدى الأفراد.
وقالت عبدالحميد "من هنا ظهر الإعلام التنموي كنموذج إعلامي يسعى إلى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من خلال ممارساته، ويستند هذا النموذج إلى عدة مبادئ؛ منها: التركيز على القضايا التنمَوية، وإشراك الجمهور في عملية التنمية، من خلال توفير منصات للتعبير عن الأصوات المختلفة، وتعزيز الحوار والنقاش حول القضايا ذات الصلة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز مشاركتهم في عملية التنمية بالإضافة إلى تعزيز المَسْئولِية الاجتماعية، من خلال تشجيع وسائل الإعلام على الالتزام بمعايير الأخلاقيات المهنية، وتقديم محتوى إعلامي دقيق وموضوعي، وتحتاج دراسة الإعلام التنموي إلى تطوير أدوات وتقنيات جديدة، وإلى زيادة الوعي بأهمية هذا النموذج الإعلامي. ومن مظلة الإعلام التنمَوي يخرج الإعلام المستدام نموذجا إعلاميا جديدا؛ لكي يواكب المتغيرات المتجهة إلى الاستدامة؛ حيث تسهم دراسة الإعلام المستدام في فهم العلاقة بين الإعلام والمجتمع والبيئة، ويسعى إلى تحقيق عدة أهداف؛ منها تقليل التأثير البيئي من خلال استخدام تقنيات إنتاج وتوزيع مستدامة، وتعزيز إعادة التدوير والاستخدام المتكرر، تعزيز الوعي بالتنمية المستدامة من خلال إنتاج محتوى إعلامي، يسلط الضوء على القضايا البيئية والاجتماعية ذات الصلة، وتعزيز مشاركة المجتمعات المحلية في عملية صنع القرار.
وأوضحت "قد يبدو من الوهلة الأولى أنه لا يوجد فرق بين الإعلام التنمَوي والمستدام، ولكن بعد الدراسة وجدت أن هناك بعض الاختلافات؛ حيث يركز الإعلام التنمَوي على القضايا التنمَوية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بينما يركز الإعلام المستدام على تحقيق التنمية المستدامة، والتي تتضمن تحقيق التوازن بين الأهداف البيئية والاجتماعية والاقتصادية، كما يستخدم كل من الإعلام التنمَوي والمستدام مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات، بما في ذلك التقارير الإخبارية، والبرامج الحوارية، والأفلام الوثائقية، والحملات التوعوية، بما في ذلك التقارير البيئية، والبرامج الحوارية حول القضايا البيئية، والأفلام الوثائقية عن البيئة، والحملات التوعوية حول القضايا البيئية.
وأشارت عبدالحميد إلى أنه بالاعتماد على المقاربة السوسيو- أنثروبولوجية؛ فهي نهج متعدد التخصصات يجمع بين الأساليب والنظريات من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا؛ حيث يركز هذا النهج على دراسة المجتمع والتفاعل الاجتماعي من منظور شامل، ويأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وباعتبار أن وسائل الإعلام تؤثر وتتأثر بالمجتمع، أقدم دراسة نظرية تحليلية ميدانية عن دور وسائل الإعلام في التوعية بالتنمية: دراسة سوسيو-أنثروبولوجية. هدفت فيها إلى بحث مدى التزام بعض العاملين بوسائل الإعلام التقليدية - المكتوبة والمسموعة والمرئية - بالمعايير والقواعد المهنية الخاصة بالتغطية الإعلامية لقضايا التنمية المستدامة؛ وذلك من خلال الدراسة الميدانية، ونظرا لأهمية دور وتأثير البرامج التليفزيونية في طرح ومناقشة القضايا التنمَوية، مما يجعلها مصدرا رئيسا في تشكيل تصورات المتلقي عن أداء قضايا التنمية المستدامة، لذلك حاولت الدراسة التحليلية رصد واقع وأبعاد المَسْئولِية الاجتماعية لتلك البرامج في تناولها للقضايا التنمَوية، كمطلب ضروري لزيادة الوعي بأهميتها، ومردودها على المجتمع وأفراده.
وأكدت إن الاهتمام بالإعلام المستدام قد تزايد تدريجيًّا على مر الزمن بناءً على الاستدامة وأهميتها؛ حيث تزايد الاهتمام العالمي بقضايا الاستدامة والتغير المناخي وتأثيره في البيئة والمجتمعات، وقد أدى إلى زيادة الضغط على وسائل الإعلام لتبني الممارسات المستدامة، وتسليط الضوء على هذه القضايا. إن الإعلام المستدام يمارس دورًا مهمًّا في تحقيق التنمية المستدامة؛ حيث يمكن أن يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال مجموعة من الممارسات والتقنيات؛ منها تقليل التأثير البيئي للإعلام، وتعزيز الوعي بالتنمية المستدامة، ودعم المجتمعات المحلية. وهكذا فإن تبني ممارسات إعلامية مستدامة يعزز الاستدامة الشاملة للصناعة، بما في ذلك البعد البيئيّ والاجتماعيّ والاقتصادي، إنه يسهم في بناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة للإعلام والمجتمعات التي يخدمها.
لفتت عبدالحميد إلى أن تحقيق التحول من الإعلام التنموي إلى الإعلام المستدام يتطلب التزامًا قويا بالمَسْئولِية الاجتماعية والبيئية، والعمل المشترك مِن قِبل الوسائل الإعلامية والمجتمع والمؤسسات المدنية والحكومة. يمكن أن يكون للإعلام المستدام دور مهم في تعزيز التوعية وتغيير السلوك في المجتمع نحو المزيد من الاستدامة والتنمية المستدامة. ومن أجل الارتقاء بدور الإعلام في دعم القضايا التنموية في المُجتمع، اهتمت الباحثة بالتعرف على الأهداف الإنمائية للألفية، والأهداف الأممية، وتطور الاهتمام العالمي بالتنمية والتنمية المستدامة، وكيفية تفعيل دور الإعْلَام ووَسَائله المختلفة في تحقيقها، بالإضافة إلى تحليل المُعوقات التي تواجهها وتوعية الإعْلَاميين بأهمية مسئولِيتهم تجاه التنميةِ المستدامة.
وشددت عبدالحميد على أن الهدف الأساسي من التنميةِ المُستدامة هو توفير متطلبات أفراد المجتمع، وتحقيق الرعاية الاجتماعية والصحية على المَدى الطويل، مع الحفاظ على المَوارد البشرية والطبيعية؛ والحدّ من تقلصها، وهي بذلك تتركـز في مجملها في الارتقاء بنوعية حياة الأفراد. ومن أجل تحقيقها تتنوع الوَسَائل التي تتخذها المُجتمعات؛ حيث يظهر الإعْلَام كشريك استراتيجي لمُواجهة مشكلات المُجتمع؛ حيث يُعدُّ نشر التوعية من أجل تحقيق التنمية المُسْتَدَامة، أحد الأهداف الضرورية التي يجب على وَسَائل الإعْلَام أن تقوم بدورها الفعال نحوه. ولا مناص من القول. بأن الإعلام رسالة، وأن مصداقية الإعلامي لدى الجمهور تُكتسب من شخصيته، فلا يمكن أن يصدق الجمهور، أو يقتنع بما يقدمه إعلامي فاسد أو متلون أو كاذب أو بلا أخلاق، لذلك ينبغي أن ينتبه صانع القرار الإعلامي، لذلك فهناك فارق كبير بين ارتفاع نسبة ما يشاهده الجمهور والاقتناع بما يشاهده ويعمل به.
وفي واقع الأمر فالمعرفة تشكل أساس التنمية، وهي تعكس مدى تطور المُجتمع ككل، وتمارس دورًا حيويًّا في تشكيل اتجاهات الحاضر والمستقبل. وعلاوة على ذلك يُعدُّ تحسين جودة الحياة هو التحدي المهم لعمليات التنمية، خاصةً في الدول النامية؛ حيث إن تحقيقها يتطلب تكاملًا أكثر فعالية بين كلٍّ من المكونات البيئية والاجتماعية والاقتصاديّةِ والسياسات العامة، والبرامج والتنموية على كافة المستويات محليًّا ودوليا. وبما لا يدع مجالا للشك أن جائحة "فيروس كورونا" أثّرت في مختلف الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي من شأنها أن تحقيق الأهداف الأممية للتنمية المستدامة في العالم ككل، ومن هذا المنطلق من الضروري إعادة وضع مؤشرات جديدة لقياس مدى فاعلية تلك الأهداف أو تعديلها بما يحسن التعامل مع الأزمات الطارئة على مستوى العالم. ومن أجل أن تتضح الرؤية وعلى اعتبار أن إنشاء المُدن الذكية المستدامة أحد الوسائل التي تعمل على تحقيق التنمية المستدامة بأشكالها المختلفة، عرضت الباحثة في الفصل التالي رؤية سوسيو ـ أنثروبولوجية للمدن وتطورها وأسباب إنشائها والأهداف التنمَوية المرجوة منها، وأهم الاشتراطات اللازمة لتحقيقها؛ حيث يُعدُّ معيار نجاح المدن في تحقيق المستهدف منها، وفي مقدرتها على تحقيق الاستدامة؛ حيث تعمل في النهاية بشكل أساسي على تحسين جودة الحياة للأفراد، والمجتمعات مما يحقق أهداف التنمية المستدامة.