"غرقى جبليون" ظل ثقيل يكلس المعنى

عنوان ديوان محمد ناصر المولهي له علاقة بالصور ذات المدلولات التأملية طي النصوص، ومن بينها تنجلي صورة السلاحف التي غرقت في برميل الماء.
الغرباء سلبوا روح الشاعر، وملهاة الماضي تلعن مأساة حاضر يطوح به بدون وجهة وقيادة
الذات تبصر الغد قرب ميناء قديم يجري دون وجهة، وهي تمثيل للأشياء التي تقتل الشعر

هيام الفرشيشي

عن دار "نقوش عربية" بالاشتراك مع مهرجان الشعر الدولي بسيدي بوسعيد بتونس، صدر ديوان "غرقى جبليون" للشاعر التونسي محمد الناصر المولهي، وهو ديوانه الثاني بعد "مثل كل شيء تنتهي" الصادر عن بيت الشعر التونسي. 
والعنوان له علاقة بالصور ذات المدلولات التأملية طي النصوص، ومن بينها تنجلي صورة السلاحف التي غرقت في برميل الماء (غرقى جبليون)، وهي تدل على الظل الثقيل الذي يكلس المعنى ويجثم عليه مما يجعل الذات تبصر الغد قرب ميناء قديم يجري دون وجهة، وهي تمثيل للأشياء التي تقتل الشعر. 
هي الأفعال العبثية في قصيد "وصايا" منها القتل والصيد ودوس كائنات صغيرة، والعودة للغاب والبدائية ليس من أجل إذكاء شعلة التوحش الطبيعي في وجه حداثة تسلب البعد الروحي في قصيد "حنين بدائي"، بل تصوير آلهة بوجوه من ظلال تآكل لحم البشر في نص "منحدر يعلو وينخفض" تدل على كابوس الإنسان وهو ينزل إلى مراتب ما دون الحيوان، لذلك يبحث الشاعر عن الإحساس الضائع والفكرة المخبأة في دفاتر طفولية قديمة تراود الصور التي ارتبط بها. 
يحاول التذكر لأن الغرباء سلبوا روحه، وملهاة الماضي تلعن مأساة حاضر يطوح به بدون وجهة وقيادة، ولكن للشاعر الحالم طائرة الطفل يمسك خيطها لتطوح في الأعالي، وبإمكانه أن يتخيل من خلالها ارتفاع حلمه في لحظات الانعتاق. وبإمكان الشاعر أن يراود الصورة ويخرجها من غياهب النسيان، لأن تجاربه الحسية تؤثر على سلوكه وعلى تعامله مع الأشياء من حوله فمن يتعامل بلطف وليونة مع الكائنات الصغيرة ويتألم لألمها يسترجع قدرة اللغة على التخفف من أقنعتها. 

من الشعر التونسي
نحن لسنا نحن

للشعر وظيفة التذكر واسترجاع صور قديمة تعيد المعنى للشاعر، الحاضر يشعر الشاعر بالغربة، وأنه لا يتقاسم مع الآخرين جمالية اللحظة، فالآخرون غرباء سلبوا روحه بينما عاش ورفاق الطفولة جماليات الروح (رغم البرد تحت جلودنا المخدوشة / طريق المدرسة الترابي خلف الوديان / كان طريق الفرح الطويل).
فزمن الطفولة هو زمن المتعة والاكتشاف وإشراقة الفرح، والزمن الحاضر هو زمن التكلس والغربة والأقنعة المحنطة فالشعر تذكر واسترجاع.
يعيش الشاعر حالة من الضياع، ولكنه يعي أنه أضاع نفسه وبإمكانه أن ينتشلها من التيه، وأن الأشياء الضائعة مخبأة في أماكن سرية أو قابعة في أماكن قصية، وعليه أن يبحث عنها، فما ضاع منه في قصيد "زوبعة صغيرة": "هو الأجمل والأكثر حضورا وألما". 
عندما أراد أن يحلم/ سد أذنيه/ وجلس وحيدا في العتمة.
ينأى عن حلم النوم وعن حلم اليقظة لأنه قطع مداركه مع الحواس الظاهرة، واستغرق في الإصغاء والرؤية ليسترجع صورا وأصواتا أخرى يتخيلها من جديد، لتعمل المخيلة من خلال التشكيل البصري عند استرجاع الروح في البحث عن حقيقة الذات: 
(نحن لسنا نحن/ نترك أنفسنا في البيوت القديمة / تحت أغطية الصوف وراء الأبواب والأشجار / الأمهات تحملن حقائب المدرسة..).
للشاعر إذن تصغي إلى إغاني الفلاسفة والفلاحين العازفة على إيقاع الفكر والجسد في ترنيمة انعكاس للخبرة الحسية والتصورية، لها ميزان مضبوط وتناسق وعدم تناقض ومطر لا يغير نغماته تتكرر على مر الزمان، وعين تلتقط صور الفلاحين والفلاسفة. أشخاص لا تنقطع حركتهم وجهودهم. يطوعون قواهم البشرية في الحفر والزراعة والجني. يشكلون صيرورة للحركة الإيجابية للمادة الطبيعية والجسدية في عالم قريب للحقيقة بعيدا عن الوهم. إنه عالم الحياة يسير وفق إيقاع المطر الذي يغذيه ويجعله مجديا.
(يخفي فلاسفة وفلاحين في غرفة واحدة ويصغي إلى غنائهم / رجل على سرير أبيض/ ما من عازف أمهر من مطر على السقف / يصغي إليه مسدلا عينه).
الشاعر يسترجع الإحساس من خلال إعادة تخيل صور مدركة سابقا أدخلت فيه البهجة يعيد الإحساس بها وتخيلها من جديد. إذ لا يتخيل أشياء لم تحصل بل يتخيل أشياء مدركة ذاتيا مشبعة بجماليات المعايشة الوجدانية يتقاسمها مع رفاق الماضي هي صور طفولية (الأطفال فقط يعيشون شعرية اللحظة). 
التخيل قدرة أخرى غير الحس المشترك، غير القوة الوهمية التي تعبث بعناصر الواقع وتشكله بأهواء النفس بل هو معايشة ذاتية تركت إحساسا أو فكرة مشعة لم تخمد تحت الرماد ويكفي تقليب الرماد ليجدها وينفخ فيها لتتوهج بحطب اللغة، وهو يتخيل من دواخل الذات وخبراتها لاستعادة الإحساس وتشكيل إمكانات من الصور، تحركها الفكرة التي تستجلي الصور الأم أثناء الطفولة: لماذا تغرق السلحفاة ؟ لماذا يترصد القدر عاملات الحقول بمأساوية؟ صور لا تضيع ولكن الشعر يوقظها ويتأملها من جديد،  فالحواس الباطنية للصورة، لها قدرة الإدهاش والتحليق والتجلي.
حاول يغرق لكنه يطفو، حاول أن يطفو لكنه يطير/ يشبه أسطورة صغيرة.