غزة والإرهاب في الشرق الأوسط

إشعال صراع جديد في غزة هو عودة لعقارب الساعة للوراء.

ليس سراً أن هناك سباقا زمنيا كان يدور منذ سنوات بين الدول العربية الساعية إلى السلام والأمن والاستقرار من جهة وما يعرف بـ"محور المقاومة" الذي تقوده إيران لتثوير المنطقة واستمرار موجات العنف وسفك الدماء تحت عناوين مختلفة، وحيث تقع القضية الفلسطينية في قلب أجندة هذا المحور الذي يوفر لإيران ووكلائها الغطاء الذي يحتاجونه كلما لاحت الفرصة لإعادة الأمور إلى المربع الأول.

بموضوعية نقول أن الأمر لا يتعلق بإيران وأذرعها الإرهابية فقط. فهناك تنظيمات إرهابية أيديولوجية متطرفة كتنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي، وهي جميعها تسعى إلى تقويض الاستقرار والدفع باتجاه إشعال الصراعات والحروب بدعاوى وحجج مختلفة، كما أن هناك أيضاً خطابا إعلاميا يغذي العنف ويحض على الكراهية ويمارس الشحن النفسي والمعنوي ليل نهار. وهو ما يجعلنا دائما نطالب بتضافر الجهود الإقليمية والدولية للقضاء عليها.

حتماً سينتهي الصراع في غزة، شأنه شأن كل الصراعات العسكرية الدموية التي شهدها التاريخ، ولكن يبقى الثمن والكلفة البشرية والمادية لهذا الصراع. وبعيداً عن حركة "حماس" ومصيرها الذي تصر إسرائيل على أن تضع له نهاية حتمية في هذه الجولة، فإن المؤكد أن الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023 لم يعد كما كان قبله. ومن يتشكك في ذلك عليه أن يتابع ما يدور في كل ساحات النقاش العامة سواء عبر وسائل الإعلام الإجتماعي، أو من خلال المناخ العام السائد في المنطقة العربية والتي تدفع ضريبة باهظة للإرهاب والعنف وسفك والدماء وكل ما يرتبط بهذه الظواهر من فقر وتدهور معيشي وفساد وانهيار للخدمات الصحية والتعليمية في مناطق ودول عربية عدة.

علينا أن نعترف أن إشعال صراع جديد في غزة هو عودة لعقارب الساعة للوراء، حيث نجحت الأجندة الإيرانية في إعادة مفردات ومفاهيم كانت قد اختفت، بدرجات متفاوتة ومن بلد لآخر، من قاموس التداول العربي على خلفية اتفاقات السلام التي عُقدت خلال السنوات والعقود الماضية، وكذلك جهود نشر ثقافة التعايش والتسامح، والدفع باتجاه التنمية والتبادلات الثقافية والتجارية والاقتصادية والتركيز على مصالح الشعوب بموازاة البحث عن مخارج وتسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

من الصعب الآن بناء توقعات متماسكة حول إمكانية مضي قطار السلام في الشرق الأوسط بالوتيرة التي سبقت السابع من أكتوبر، وعلينا أن نفرق بين الآمال والحقائق في هذه المسألة. فالعقلاء في منطقتنا العربية وبنفس القدر في إسرائيل، يتمنون طي صفحة هذا الصراع بأسرع وقت ممكن والبدء في لملمة آثاره وتداعياته الكارثية ومعالجة وترميم الجروح على الجانبين من أجل النظر للمستقبل. ولكن الواقع يقول إن من الصعب للغاية حدوث ذلك في وقت وجيز، لاسيما على المستوى الشعبي والوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية. فربما تنجح المستويات الرسمية في استئناف قنوات الاتصال، ولكن ذلك لن يحول دون الشواهد التي تشير إلى أن التخطيط المسبق الذي نفذته "حماس" وبقية الأذرع الميلشياوية الإرهابية، حيث قد نسف أجواء وبيئة سلام ظل الكثيرون في منطقتنا يعملون عليها ويغرسون بذورها سنوات طويلة، بل إن هذه المرة تختلف عن سابقاتها لأن إيران زجت هذه المرة بأذرع جديدة في الصراع مثلما حدث من جانب "الحوثي" الإرهابي وتم تحويله إلى صراع ديني بامتياز، وتلك هي المسألة الخطيرة التي تنطوي على أبعاد لا يقدر الكثيرون في منطقتنا العربية عواقبها المستقبلية على الأمدية المختلفة.

ليس سراً أن الصراعات الدينية أشد خطورة وتأثيراً ويدفع ثمنها الجميع ليس في منطقتنا فحسب بل في العالم أجمع، حيث تفتح الباب واسعاً أمام دخول المتطرفين والارهابيين من جميع الدول والمناطق إلى ساحات "الجهاد" المفتوحة من دون داع ومن دون تخطيط مسبق أو قيادة مركزية لهذه الصراعات الشيطانية. وإلى جانب عودة متوقعة لتنظيمات الارهاب إلى الساحة، وربما ظهور جماعات وتنظيمات جديدة قد تكون أكثر دموية وأشد عنفاً من الأجيال الارهابية التي نجح المجتمع الدول في التصدي لها والحد من خطرها، تبرز بقوة ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي يمكن أن تشكل مرحلة أو ردة فعل للشحن النفسي والمعنوي والإعلامي الهائل الذي تمارسه الكثير من الأطراف في منطقتنا والعالم.

معضلتنا، كعرب، أن هناك أطرافا إقليمية أخرى تدخل على خط الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتوظفه لمصلحة تحقيق أهداف استراتيجية خاصة بهذه الأطراف، ولهذا يتحول الصراع إلى عناوين عريضة ضمن أجندة التنافس على النفوذ والهيمنة الاقليمية والدولية، ويدفع عشرات الآلاف من الضحايا حياتهم ثمناً لهذه الأغراض، كما تتفاقم أزمة اللاجئين الفلسطينيين لسنوات قادمة على أقل التقديرات، وتضيف إلى أزمات المنطقة العربية أزمة جديدة أشد وطأة وأكثر تأثيراً، ليصبح اللجوء والشتات والنزوح العناوين الأبرز في منطقتنا العربية من السودان إلى ليبيا وسوريا والأراضي الفلسطينية، وهي ظروف مثالية تصب في مصلحة تنظيمات الارهاب والقوى الاقليمية والدولية الساعية إلى نشر الفوضى والاضطرابات في الشرق الأوسط في إطار صراع استراتيجي على المكانة والنفوذ في النظام العالمي.