غضب المتطرفين على الرياض

التحريض والتجييش يصل إلى منابر دينية وإعلامية حتى صارت جموع من الصغار النابهين تبيع عقولها وتتحول إلى قطعان تأتمر بأمر الوعّاظ المتعصبين القادرين بكلمة واحدة منهم على دفعهم إلى التضحية بأنفسهم وصار سعوديون يفخِّخون سياراتهم ويرتدون أحزمة ناسفة ليقتلوا سعوديين آخرين لتحقيق مخططات تنظيم القاعدة وداعش لهدم الدولة.

بقلم: ممدوح المهيني

‫‫في السعودية، ولعقود، كان صوت المتشددين القلة أعلى من صوت المعتدلين الغالبية. ينشرون الكراهية ويكفِّرون من يكافحُها من المسؤولين والكتّاب والمثقفين حتى الناس العاديين. يسيطرون على التعليم ويزرعون بعقول الطلاب خلطة مسمومة من الأفكار الإخوانية والسرورية، هدفُها إنتاجُ عقول مغلقة وناقمة على الحياة المعاصرة.

‫ ظاهرة صعودهم بدأت في عام 1979، تمكنوا - تدريجياً - من بسط نفوذهم على جوانب من الحياة الاجتماعية والثقافية، وسعوا لإحداث تغييرات جذرية في طبيعة المجتمع البسيط المؤمن بطريقة فطرية. ولتحقيق ذلك فُرِضت قوانين وممارسات مصادمة ومعارضة لعادات المجتمع. ضُيِّق على النساء ومُنِعَت الفنون حتى التراثية والتقليدية منها. هُمِّشت فكرة الوطن مقابل الأممية وحُرِّم أي شيء يتعلق بها، مثل ترديد السلام الملكي والاحتفال بالعيد الوطني. أُوقِفت الاحتفالات والمسارح والسينما وأُغلِقت بالأقفال وسائل الترفيه الأخرى. لُطِّخت أسماء ثقافية متنورة، مثل غازي القصيبي واحتُفِي بأسماء تكفيرية، مثل سيد قطب.

‫ وصلَ التحريض والتجييش إلى منابر دينية وإعلامية، حتى رأينا جموعاً كبيرة من الصغار النابهين تبيع عقولها وتتحول إلى قطعان، يأتمرون بأمر وعّاظ المتعصبين القادرين بكلمة واحدة منهم على دفعهم إلى التضحية بأنفسهم. وقد رأينا - حينها - سعوديين يفخِّخون سياراتهم ويرتدون أحزمة ناسفة ليقتلوا سعوديين آخرين، لتحقيق مخططات تنظيم القاعدة وداعش لهدم الدولة عبر سفك الدماء ونشر الفوضى.

‫تحولت قضايا المتطرفين إلى أزمات كادت تمزق نسيج المجتمع عبر الدخول في جدل حول قضايا أساسية، مثل قيادة المرأة السيارة والفنون وحقوق النساء وغيرها. كممت عناصر الجماعات المتطرفة أفواه العقلاء، مستخدمين الفتاوى التكفيرية واستراتيجيات اغتيال الشخصية. لم يصبحوا فقط نجوماً للشارع، ولكن أكبر المؤثِّرين في تويتر، الذي أصبح منبرَهم الأقوى وساحة تجمعهم. تعدى تأثيرهم إلى خارج السعودية حيث قدَّموا أنفسَهم إلى دول أخرى، ورأينا أحدهم يخطب في القاهرة أيام ما يسمى الربيع العربي، ويهدد مُعلِناً أن يوم الحساب قريب.‫

‫من كان يصدق أن كل هذا الوضع سيختفي ويصبح من الماضي خلال وقت قصير مع تولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مهامه. مهمة عسيرة جداً أن تزيح هذا الإرث من التطرف خلال فترة قصيرة، ومن الصعب التصديق لو لم نرها بأعيننا. خطوات شجاعة وكبيرة في دعم التسامح والاعتدال لم يكن يتخيلها أحد، مثل السماح للنساء بالقيادة وإيقاف القيادات المتشددة.

‫كوفح المتعصبون ودعاة الكراهية والفوضى، حتى اختفوا من المشهد، وتخلص المجتمع من هذا الضخ القوي للأفكار المتشددة، التي تصب في الآذان وتكتم الأنفاس. مغالطة مكررة تقول إن للمتطرفين الحق بالتعبير عن آرائهم، وهذا بالطبع غير صحيح لأن أفكارهم مسمومة وتروج لثقافة الكراهية والتعصب، وبالتالي تدمير وتقسيم المجتمع، لذا فإن منعهم هو الخيار الصائب. حتى في الدول المتطورة التي لديها تقاليد عريقة في الحرية لا تتسامح مع شخصيات تبث أفكار كراهية على الملأ، لأن السكوت عنها سيؤدي إلى تفجير المجتمع من الداخل. مع الدول الأقل عمراً يصبح الأمر أكثر إلحاحاً وأهمية.

‫في العالم العربي والإسلامي، سمعنا في السابق وعوداً كثيرة عن محاربة التطرف، ولكن يستخدمها السياسيون كدعاية وحملة علاقات عامة موجهة للغرب ولا يطبقونها على أرض الواقع. تُقدِّمُهم بصورة الحداثيين المتمدنين، بينما الواقع مختلف. القادة الاستثنائيون يعنون ما يقولون ولا يتراجعون لأنه سيكون في صالح أوطانهم والأجيال القادمة. ولي العهد السعودي بنفسه أعلن عن هذه الحرب على ثقافة التعصب عندما قال كلمته الشهيرة: سندمر المتطرفين الآن وفوراً. وهذا ما حدث على أرض الواقع وطِبقَ برنامج عملي. والتاريخ يعلمنا أن الدول التي انتشرت فيها أفكار التعصب تخلفت وتفككت، والدول التي تبنت التسامح والاعتدال الديني ازدهرت وتقدمت.‫

‫حرب الرياض على التعصب لم تكن دعائية بل عملية وليست محلية ولكن إقليمية ودولية. من المثير أن نرى السعودية التي شوَّه صورتَها دعاةٌ متطرفون يبثون الكراهية، أصبحت الآن تصدر علماء هدفهم الأول نشر التسامح الديني، كما يفعل أمين رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى، الذي يجوب العالم ويعقد مؤتمرات يلتقي فيها قيادات من كل الأديان والطوائف. كما تزور قيادات مسيحية الرياض وتلتقي القيادة السعودية. الهدف هو تعزيز فكر التعايش وتقديم صورة معتدلة عن الإسلام. المكانة الدينية الكبيرة للسعودية يمنحها هذا التأثير الكبير في المحيط الإسلامي الذي عانى لعقود من صعود متواصل لموجة التطرف التي تولد منها الإرهاب.

‫وبالتحالف مع دول داعمة للفكر المعتدل، مثل الإمارات ومصر، فمن الممكن أن يسود، ولأول مرة، الخطاب المتسامح ويضعف الخطاب المتشدد الذي كان وراء أكبر الأزمات التي عصفت بالمنطقة من الإرهاب وحتى تفكيك الدول.

‫هذا سبب رئيسي للحملة المتواصلة على الرياض التي يقودها القطريون والإيرانيون وجماعات الإسلام السياسي التي تعتمد على الخطاب المتطرف وتنظيماته وإعلامه ورجاله في تحقيق تطلعاتها وأهدافها السياسية.

نشر في العربية نت