غلطة نوري السعيد القاتلة!

يتغنى البعض بديمقراطية العهد الملكي ويقارنها بديمقراطية العهد الحالي. لا معنى للديمقراطية بوجود شعب بائس وقلة مستفيدة.

بعد ان تداعت امور العراق، نتيجة الحروب والحصار، ظهر لدينا عدد غير قليل من العراقيين، تصدوا للتحليل السياسي، بمناسبة ومن دونها، للاجابة عن اسباب ما حصل، وكانت خلاصة "تحليلاتهم"، هي ان ثورة تموز 1958 تمثل أس البلاء الذي حل بالبلاد، كونها اطاحت النظام "الديمقراطي" الذي ظل العراقيون يتنعمون به طيلة العقود الاربعة التي سبقتها!

وبفعل الشعور بالمرارة، اخذت هذه الطروحات بالانتشار وباتت جزءا من ثقافة سياسية عراقية، لاسيما بعد الاحتلال وتداعياته المرعبة، اذ لم يعد مستغربا ان تجد ماركسيين، او قوميين، يساريين كانوا او يمينيين، وحتى اسلاميين، يتبارون بطروحاتهم الممجدة بالعهد الملكي ودولته المثالية التي افقدنا اياها "انقلاب تموز المشؤوم".

لا يداخلنا الشك، ان اغلب هؤلاء الذين باتوا متحمسين لذلك العهد، اما ان يكونوا من اكثر الناس تأييدا وحماسة للثورة عند وقوعها، او من الذين ولدوا بعدها وتشبعوا بثقافتها وكانوا ينظرون لها بشيء من القدسية الممزوجة بعاطفة جياشة، لم تستحضر خلفيات الحدث السياسية وقراءتها بعمق. وان الرؤية الجديدة هذه، تولدت لديهم كمعطى لواقع مرير، لا يحتاج الى جهد تحليلي كبير، اذا ما كانت المعايير بهذا التبسيط، لان الجميع يرونه واقعا بائسا، وكيف للانسان ان يرى الجوع والتصحّر العام شيئا جميلا؟ أي اننا تحصلنا على اعداد كبيرة من الهياكلة الجدد - نسبة الى محمد حسنين هيكل - ممن لم يقرأوا ظروف تلك المرحلة او دراسة الاسباب المباشرة وغير المباشرة التي وقفت وراء الثورة وتغيير الواقع الفاسد، وقتذاك.

لا نريد هنا ان نتحدث عن الاسباب غير المباشرة التي وقفت وراء التغيير الواسع في انظمة المنطقة والعالم، بعد الحرب العالمية الثانية، لان هذا يستدعي قراءة اوسع لمعطيات المرحلة تلك، وظهور قوى كبرى جديدة على المسرح الدولي، رأت ضرورة تصفية تركة الدولتين الاستعماريتين، الآفلتين، بريطانيا وفرنسا، لتبدأ مرحلة جديدة، تكون فيها الشعوب متحررة من ربقة الاستعمار المباشر، كنتاج لحراك عالمي، يواكب الحداثة التي تحصلت كمعطى لهذا الحراك المتساوق مع النظام الدولي الجديد، المتمثل بهياة الامم المتحدة ومؤسساتها. لكن هذا الحلم اصطدم بالتجاذب العقائدي والسياسي الحاد بين العملاقين الجديدين، اميركا الصاعدة ومعسكرها، مقابل الاتحاد السوفييتي الصاعد ايضا ومعسكره.

لسنا هنا بصدد التفصيل في هذه المسألة الواسعة، وشكل التداعيات التي رافقتها، لكننا اردنا ان نتحدث عن الاسباب المباشرة التي كانت وراء الاطاحة بالنظام الملكي الاوليغاريشي الذي حكم العراق لاربعة عقود، كان له فيها ما يستحق الثناء، وعليه الكثير الذي يستحق ان يذكر ويذكّر به دائما، لانه بات في ذمة التاريخ ودروسه التي يجب ان نستفيد منها. لاشك ان هناك شواهد قاسية تؤكد ان اقطاب العهد الملكي، وابرزهم نوري السعيد، عملوا على بناء دولة مستقلة قدر الامكان، وعملوا على حمايتها من اطماع الجوار القريب والبعيد، لكنهم لم يحصنوها من الداخل بقوانين تجعل الشعب يرى فيها انها دولته حقا، ويحرص عليها ويعتز برموزها. وهذه حقيقة تجلت بشكل لا يقبل الشك بعد وقوع انقلاب تموز الذي تحول الى ثورة شاملة اتت على النظام الذي انهار خلال ساعات، ووجد نفسه مكشوفا امام جماهير غاضبة، اغلبها من الفقراء المعدمين، ممن لم يكلف اقطاب ذلك العهد انفسهم، ولو بندوة واحدة، يقيموها، ليعرفوا اسباب تزاحم تلك الاعداد الهائلة من النازحين، ليقيموا العشوائيات على اطراف العاصمة، قادمين من الارياف الجنوبية وغير الجنوبية، حيث الفلاح يهان ويعامل كالمملوك للاقطاعي، واسود البشرة يسمى عبدا، والعامل يعمل "من طلعتها لغيبتها" أي من طلوع الشمس الى مغيبها، بأجر بخس، وبلا قانون للعمل يؤمن له مستقبله ومستقبل عائلته، منوهين هنا الى ان شريحتي الفلاحين والعمال، تمثل نحو تسعين بالمائة من مجموع الشعب، الذي كان يتنعم بديمقراطية زائفة لم تشبع البطون ولم تحفظ الكرامة. فكانت نقمة الناس عليها، او على النظام الذي يمثلها وصلت حدا، صار يشعر اغلب العراقيين بالخجل، حين يستعرضون فظائع رد فعلهم الغاضب بعد الثورة. فالفلاح كان يرى الاعداد الكبيرة من السفن العملاقة وهي تنقل واردات الحبوب المصدر للخارج، التي تكفي لإطعام اضعاف سكان العراق، بعد ان ينتجها بكده وجهده، طيلة العام، بينما تذهب اموالها الطائلة لجيوب الاقطاعيين، ليبقى هو جائعا وعاريا ومريضا ومديونا ايضا، يضطر تحت تعاظم ديونه وتفاقم اوضاعه البائسة الى الهرب من قريته. والعامل كان يبني السرايا لكبار الموظفين والضباط وعليّة القوم، فيما هو مقهور ومعدم.

واقع اليوم شبيه بما حصل بالامس. فالكلام عن الديمقراطية ودحر الارهاب وحماية وحدة البلاد من التهديدات الخارجية وغيرها من الطروحات الواقعية وغير الواقعية، لا تقنع العاطلين عن العمل والمحرومين من فرص العيش الكريم او تدفعهم الى السكوت، وهم يرون بلدهم المليء بالخيرات، خرابا بينما اموالهم تسرق وسني اعمارهم تمضي بلا معني في ظل ساسة فاسدين، ليس لهم من همّ سوى حماية مصالحهم الشخصية والحزبية.

لا اعتقد اننا نحتاج الى منظّرين بعد سنين، يحدثوننا عن الديمقراطية الوليدة، وضرورة المحافظة عليها، على غرار حديث البعض اليوم عن ديمقراطية العهد الملكي، عندما تفلت الامور ونجد انفسنا جميعا في خضم فوضى عارمة تذكيها تدخلات الجوار واجنداتهم، لنبقى عالقين في واقع مرير مستمر، وتنظيرات لا قيمة لها، لانها لم تأتِ في الوقت المناسب، او بعد ان يصبح الحديث فيها، كمن فسّر الماء بعد الجهد.. بالماء الملوث!