غلظة القلب لا تختلف عن السادية

كاثلين تايلور تناقش في كتابها "القسوة.. شرور الإنسان والعقل البشري" اثنين من الادعاءات الشائعة التي يتبناها الباحثون في مجال الأفعال المهلكة التي يرتكبها البشر؟
القسوة سلوك إرادي غير مبرر يسبب معاناة متوقعة لضحية أو ضحايا لا يستحقونها
القسوة ليست شأنا يخص المجانين أو من يولد شريرا بالفطرة

ترى الباحثة البريطانية كاثلين تايلور أن القسوة شيء قديم قدم الإنسانية، إن لم تكن أقدم، وأنها "سلوك إرادي غير مبرر يسبب معاناة متوقعة لضحية أو ضحايا لا يستحقونها. وقد تتضمن القسوة عدوانا جسديا أو إهانة أشد حدة وإيلاما، ولكن الهدف منها هو أن تجعل المستهدفين منها يعانون حسيا أو نفسيا ومعنويا".
وتناقش كاثلين في كتابها "القسوة.. شرور الإنسان والعقل البشري" اثنين من الادعاءات الشائعة التي يتبناها الباحثون في مجال الأفعال المهلكة التي يرتكبها البشر، والتي يبدو أن المجتمع يغض الطرف عنها. الأول هو أن القسوة ليست شأنا يخص المجانين أو من يولد شريرا بالفطرة، بل من الأرجح أن كثيرا من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل، أي أنه يرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبها وقت الفعل. فمن يرتكبها أناس مثلي ومثلك. وحتى في الحالات البالغة القسوة يدرك مرتكبوها ماذا يفعلون تماما. وبعض منهم، بعدما تسنح لهم الفرصة بإعادة التفكير، يتمسكون بشدة بالأسباب التي دفعتهم لهذا الفعل. 
وفي كتاب "لورانس ريس" عن مدينة أوشفيتز، يحكي على لسان طبيب بيطري شارك في الحرب العالمية الثانية أنه ساعد النازي في إطلاق النار على اليهود عام 1941، ومازال يعتقد أن ما فعله منذ ستين عاما هو الشيء الصواب والصحيح. أما عندما يقع الإيذاء العنيف واللامنطقي في جرائم القتل مثلا التي يرتكبها مختلون عقليا، ونفكر نحن فيما فعلوه، نستبعد وصف هؤلاء بأنهم قساة، لأن منطقهم مشوش ومضطرب، فالقسوة تنطوي على التعمد والاختيار الحر والمسئولية الأخلاقية لدى الفاعل.
والادعاء الثاني هو الفرق والاختلاف بين من يطلق الإهانات اللفظية في وجه أحد المهاجرين ومن يضرب المهاجر حتى الموت، هو اختلاف في درجة الإيذاء وليس اختلافا من نوع القسوة. وليس معنى هذا بالطبع أن يستوي الاثنان.. فمن الواضح في حالات الوفاة أن هناك اختلافا كبيرا بين المظلوم الذي يذرف الدمع بلا حدود ومن يقاوم الانخراط في البكاء أثناء الجنازة، إلا أن كليهما واقع تحت الانفعال أو الإحساس نفسه. ويمكننا أن نتخيل في مثل هذه الحالة سلسلة متصلة من درجات: لا حزن، حزن طفيف، أو حزن مهلك للروح.. وعلى هذا المقياس والتدرج نضع هذين المكلومين.

السلوك السادي في الحرب قد لا يحدث خارج هذه المواقف، وقد عاش كثير من المجرمين حياة المواطنين الصالحين بعد الحرب التي ارتكبوا الفظائع فيها.

وتؤكد في كتابها الذي ترجمته وقدمت له د. فردوس عبدالحميد البهنساوي أن السلوك القاسي طوعي وإرادي أيضا، غير أن الإيذاء يصبح رغبة قوية وطاغية جدا أحيانا، حيث يسمى نزعة "قهرية"، إلا أنه بالإمكان التحكم فيها إلى حد ما، ومن ثم فإننا قد لا نحتاج كثيرا إلى عبارات مثل "اندافع إلى الشارع ليقتل كل من يصادفه"، "فقد السيطرة على نفسه"، أو "أصابه سعار القتل". 
وتختلف هذه "الأنماط" تماما عمن يطلق عليهم "مجرمون ملزمون" مثل مرتكبي جرائم الاغتصاب، أو قتل الأطفال أو معتادي القتل المتكرر، فهؤلاء يخططون لجرائمهم بعناية، وقد يمتنعون عن ارتكابها في آخر لحظة، أو يكتمون الرغبة في القتل لعدة شهور أو سنوات. ونحن نحكم على هذين النوعين من الضرر والإيذاء بأنهما يصدران من فاعل مسئول عن فعله، لكننا نأخذ في الحسبان العوامل المحفزة على ذلك مع شيء من المرونة الأخلاقية والقانونية، والفعل الحر مسألة درجات ورتب". 
وتضيف إن القسوة مفهوم أخلاقي. ومن يقدم على إيذاء الغير لا بد أن يبرر أفعاله، فإن السلوك القاسي معرض للعقاب ممن لا يجدون مبررا للفعل. وتبعا للظروف، فإننا نشكل أحكامنا الأخلاقية التي ورثناها عبر الانتقاء الطبيعي مع النشوء والارتقاء، أو ببطء أكثر مع ذلك، أو بالرجوع إلى منطق المنفعة الشخصية، وأيضا بتأثير المبادئ الأخلاقية السائدة في ثقافتها. 
وإذا كانت المبادئ الأخلاقية الوضعية لا تتوافق مع التبرير الذي يقدمه من يرتكب الفعل المؤذي، فيلزم أن نسميه فعلا قاسيا، رغم أن غريزتنا الأخلاقية الأساسية قد ترشدنا إلى شيء آخر، وسوف نتعلم التحكم في هذه الغريزة إذا ألتزمنا الحكمة والسياسة بذلك. أي أنه عندما تقتضي المصلحة الشخصية أن نمتنع عن الكلام بصفة مؤقتة وأن نرجئ الرأي والتعبير. وإذا أخذنا هذه المصلحة أو نماذج اجتماعية أو نزاعات قديمة، في الاعتبار، فإن الحكم الأخلاقي يمكن أن يصبح قوة منفرة ومقززة يمكنها حق الجماهير "الغوغائية" أو تعدمهم دون محاكمة".
وتشير كاثلين إلى أن القسوة نعتبرها سلوكا مخزيا، لكنها ليست مفهوما متفردا لا سابقة له. واللامبالاة وجمود القلب الذي تميز به قابيل شيء بغيض مرفوض وجدير بالازدراء، لكنه من حيث المبدأ يمكن إصلاحه حتى نتخلص من الخطيئة والسادية التي هي أكبر من ذنب قابيل، فهي اندفاع عميق في مملكة الشر. إن العاطفة الأخلاقية غالبا تفسر غلظة القلب على أنها سادية، وإذا وصفنا أحدا بأنه "سادي" يكون الوصف بناء على مبلغ الضرر الذي يحدثه. ومما يشهد بالتناقض أن الأحكام الأخلاقية قد تستخدم أحيانا كي تبرر القسوة المتناهية وغير المألوفة".
وتوضح أن القتل دفاعا عن النفس، في قتال من أجل البقاء يعتبر ـ على نطاق واسع ـ مبررا أخلاقيا.. وهكذا فإنه على نحو كامل، ليس نوعا من القسوة، لأن الضحية أيضا شخص مهاجم مستفز، وكان من الممكن أن يكون مجرما قاتلا، ومن ثم فهو لا يستحق الشفقة. لكن القتل من أجل أسباب نفعية يستحق مزيدا من اللوم والزجر، ويحتمل أن نعتبره فعلا قاسيا، وهذا مفهوم. أما إذا تلذذ المجرم بفعل القتل أو الإيذاء، فذلك بصفة عامة يعتبر شيئا بغيضا وكريها. وفي مرتبة الشرور تتفوق السادية وتعلو على غلظة القلب، وكلما زدنا من تعرفنا على الدوافع السادية التي تظهر في فعل إيذاء إنسان، كان الاحتمال ليس فقط أن ندينها على أساس أخلاقي، ولكننا نفعل ذلك أيضا بمشاعر من الغضب والحنق الشديد المؤسس على عرف أخلاقي يدعم الاشمئزاز من المجرمين".
وتلفت كاثلين إلى أن السادية مختلفة، فالرجل الذي يقضي على طفل برئ لا حول له ولا قوة، أو من يغتصب امرأة قبل أن يقتلها ـ خصوصا إذا حكى عن ذلك ضاحكا أو ممازحا أو تندر به وتفاخر به فيما بعد ـ يجلب لنا شعورا بالعار والخزي الأخلاقي. إن المجرم قد لا يظن أن فعله سادي لكننا نحن ندرك ذلك. ومعركة التبرير التي يخوضها كثير جدا من المجرمين وأتباعهم، تتمحور حول "الدافع" و"الضرورة" وحول استحضار التفسيرات التي تجعل قسوتهم تبدو شيئا حتميا، وكلها وسائل غير موفقة، فالدوافع "آثار جانبية"، والفعل ليس من الأخطاء بل إنه تجربة استمتعوا بها ونفذوها من أجل اللذة الكامنة فيها. 
وتشدد على أن غلظة القلب لا تختلف عن السادية من حيث تأثيرهما الحسي والبدني في الضحايا. والضرر قد يكون مفزعا بالقدر نفسه في الحالين، ومع ذلك فنحن نحكم أخلاقيا على الفعل السادي، وليس على الفعل القاسي، بأنه تجسيد للدرك الأسفل والأسفل والأفظع من وحشية الإنسان.
وتشير إلى أن بعض أنواع القسوة تشتمل ردود فعل طائشة تجاه تهديدات اجتماعية تثير الغضب أو الخوف، وبعضها يتضمن إغفالا متعمدا للحالة الإنسانية للضحية، لأن إقصاء الآخر جعل هذه الحالة لا اعتبار لها اطلاقا بالنسبة إلى مرتكب الجريمة. وهؤلاء المجرمون قساة الفؤاد تدفعهم معتقداتهم القوية، قد يرون أن سلوكهم نوع من "سوء الحظ"، لكنه دفاع ضروري عن النفس يحميهم من الأفكار والناس الذين يشكلون تهديدا ضد مظهر حيوي من مظاهر هويتهم. 
وترى كاثلين أن ليست كل القسوة من القلوب المتحجرة مثارها الدفاع عن المعتقدات، إلا أن المعتقدات يمكن أن تستخدم تلقائيا باعتباره مبررا للسلوك العدواني أو أن تدعم وتشحذ خصيصا لمثل هذا العدوان. فالجشع والخوف والرغبة في الانتقام وما يماثلها من غيظ واستياء، والمنافسة على الموارد، كل هذا وكثير من المثيرات الأخرى، يمكن أن تدعم القسوة التي تحفزها المعتقدات وتغذيها مبرراتها "الأيديولوجية". 
وقد تقدم المعتقدات بطاقة العواطف سبلا و"قنوات" تربط بين الرغبات وأعمال العنف. غير أن الظروف يمكن أن تغير العواطف القوية إلى درجة أن ما كنا نعتز به من معتقدات يفقد قوته وتأثيره، وقد تبدو هذه المعتقدات بعد ذلك، لمن كانوا يعتنقونها، نوعا من الضلال أو الأحلام المزعجة. كما أن هناك السادية أيضا، والتي قد تشير بقدر كبير إلى اتباع اللذات أكثر من كونها نزوعا إلى "تشكيل العالم" الواقعي كما نريده كي نحفظ أفكارنا المعرضة للضياع أو السقوط ربما بيد الأعداء. وتربط المعتقدات ارتباطا كبيرا بأسوأ أنواع القسوة المتطرفة، ولكنها يلزم أن تكون على درجة كبيرة من القوة والتعصب كي تجلب الضرر المقترن بها".

وتلاحظ كاثلين أن غلظة الفؤاد تجاه الآخرين تختلف من شخص إلى آخر. ومن العوامل التي تجسد وجود هذه الاختلافات الفردية: التباين في القدر على المشاركة الوجدانية إدراكيا وحركيا وعاطفيا، ومستوى التأثر أو التوتر، ومدى تقبل الضغوط من القادة والنظراء، وتوفر الوقت والقدرة على تفتيت أو تشتيت المناقشات والجدال حول إقصاء الغير والبحث عن حلول بديلة للمشكلات، والخبرة الذاتية.. وهذه مجرد جزء قليل من العوامل التي تلتحم وتتوحد كي تجعل بعض الناس معرضين أكثر من غيرهم للتصرف بدافع غلظة الفؤاد، ومهما كانت الأسباب، فالقسوة بدافع من غلظة القلب تبدأ دائما بإقصاء الآخر وبعدد قليل أو كثير من التبريرات الواهية والمهلهلة للتدمير الذي يخطط له أو الذي ينفذ. 
وتضيف أن البشر طوروا القوانين والقيم الأخلاقية والتحكم في النفس حتى يسيطروا على العدوان المتناهي الذي يؤدي إلى غلظة القلب، ولكن في مواجهة من يعتبرونهم بشرا فقط ومن يشبهونهم ومن ثم يحتمل أن يكونوا أقرباء. إن جمود القلب الموجه ضد من هم خارج الجماعة (الغرباء) قد يجلب موارد غذائية، أو رفقاء ومعاونون. ولقد دعم ذلك السلوك القاسي وزاد من التميز والتفرقة بين "نحن" و"هم" مما طور آليات إقصاء الآخر في كل مكان في هذا الزمن، إن القسوة إهدار للطاقة، لكن عندما يكون الخصم المناوئ أقل في القوة من المهاجمين فلن يهم، لكن تأثير العائق أو المانع من القتال، قد يفوق تكلفة القتال نفسه، لأن الفريق المعادي سوف يراجع حساباته وآراءه عن قدرة المهاجم الفائقة ويحاول الاعتداء من جانبه. 
والجانب السلبي من هذا السلوك مألوف في العالم الحديث. فمن نجوا من القسوة النابعة من جمود القلب غالبا ما يلجأون إلى إجراءات متجاوزة على سبيل الانتقام، أو حماية النفس، أو لأنهم يعتبرون قسوة مهاجميهم دليلا على وضعهم المتدني إنسانيا. والدائرة المفرغة الناشئة عن ذلك هي التي يُولد الهجوم الوحشي فيها هجوما من الجانب الآخر، وتثير الجرائم الفظيعة فظائع أخرى، بدلا من الاستسلام، فيمكن لها أن تخلق بيئة مثالية لازدهار السادية.

وتنبه كاثلين إلى أن السادية تتجذر وتستقر عندما تكون الإشارات التي يجب أن تنهي وتمنع العدوان في الأوضاع الطبيعية، مثل: الدموع والخضوع وعلامات الضعف والإذلال، قابلة لأن تتوحد مع شكل من "المكافأة"، تحفز الفرد على اتباع سلوكيات تزيد من آلام الآخرين ومعاناتهم. 
إن الإحساس بالكسب والمكافأة يمكن أن يكون من القوة حيث يصبح إدمانا. ومثل حالات الإدمان الأخرى تنطلق السادية من بيئات معينة. وكما يهجر مدمنو المخدرات الظروف والأماكن التي تذكرهم بتعاطي المخدر، فالسلوك السادي في الحرب قد لا يحدث خارج هذه المواقف، وقد عاش كثير من المجرمين حياة المواطنين الصالحين بعد الحرب التي ارتكبوا الفظائع فيها.